تفسير سورة الشورى -01- من قوله تعالى: { حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) } إلى الآية 6
الدرس الأول من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الشورى، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) }
صباح الثلاثاء 11 رمضان 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله على نعمة القرآن والآياتِ البيّنات، وخطابِ ربّ الأرضِ والسّماوات، وتنزيله الوحي على قلبِ خير البريّات، ووصوله إلينا مبيَّنًا بخير التبيينات، منقِذًا وهاديًا ومُسلّكًا في سبيل الاستقامات، نحمدك اللهم ونسألك أن تصلّي وتسلّم على القلب الذي أنزلته عليه، عبدك الطّاهر الخالص المخصوص بأشرف الخصائص سيدنا محمّد، وعلى آله المطهّرين وأصحابه الغرّ الميامين، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من النبيّين والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتّابعين، وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ:
فإنّنا في نعمة تأمّلنا لكلام إلهنا وخالقنا وبارئنا ومصوّرنا ومنشئنا ومُوجدنا ومن إليه مصيرنا -جلّ جلاله-، أكملنا ذكر بعض المعاني في سورة الزخرف، ونبدأ في سورة الشورى، سورة (حم (1) عسق (2)).
يقول الرحمن -جلّ جلاله-: بسم الله الرحمن الرحيم ((حم (1) عسق (2))، جُعلت آيتان؛ ففُصلت (حم (1)) عن (عسق (2)) ، ولا كذلك في (كهيعص)، ولا في (الم)، ولا (المر) ولا غيرها.
(حم (1) عسق (2)) بما تحمل من معاني الله أعلم بها، ومنها ما تكلّم فيه بعض الصحابة أو التابعين:
-
من أنها حروف تتعلّق بصفات الحق الخالق -جلّ جلاله-، وأنها قَسَمٌ بهذه الصفات.
-
أو أنها تتعلّق بصفات النّبي محمد ﷺ وهي خطابٌ له.
-
أو أنها تتعلّق بصفاتِ خاصّة المؤمنين من العارفين والصّالحين.
-
أو أنّها مشيرةٌ إلى وقائع تقع في الأمة.
إلى غير ذلك مما جاء في الآثار وعن المفسّرين.
وجاء عن ابن عباس: أنّه ما من نبيّ أُنزل عليه كتاب إلا وأوحى الله إليه: بـ (حم (1) عسق (2))، يشير إليه الآية: (كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3))، كذلك بالتفضّل الربّاني، والتخصيص الصمداني، باختيارك خاتمًا للنبيّين ومبلّغًا عن الله رحمةً للعالمين.
-
(يُوحِي إِلَيْكَ) كما قرأ الجمهور.
-
وفي قراءة ابن كثير: (يُوحَى إِلَيۡكَ).
(كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ)؛ يُنزل الوحي المخصوص بخاتم النبوة والرسالة. ووحي الأنبياء والمرسلين لا يصل إليه وحيّ من عداهم، من: وحي منام، أو وحي إلهام، أو وحي إعلام، ولكنه وحيٌّ برسالة ونبوة وشريعة، هذا لا يكون إلا للأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم.
(كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)):
-
العزيز: صاحب العزّة، فلا يمكن أن يُدرَك مدى وصفه ولا أسمائه، فضلًا عن ذاته العلية.
-
الحكيم: الذي يضع كل شيءٍ محلّه، وله في كل ما كان وما يكون حِكَم بالغة، منها ما يُهتدى إليها في الدنيا أو بعد الدنيا، ومنها ما لا يُحيط بها غيره سبحانه وتعالى.
(كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3))، صاحب الألوهية والعِزّة والحِكمة والعظمة وخصائص الربوبية التي لا وجود لها في غيره، هو الذي يوحي إليك وإلى الذين من قبلك؛ فشأنك وشان المرسلين مميزٌ ومخصّصٌ عن كل ما ينازل الناس من تصوّرات ومن أفكار ومن تجارب ومن نظريات ومن آراء… شأن ما يُوحى إلى المرسلين، أن الإله الحقّ الخلاق الموجد العزيز الحكيم ذو الصفات العُلا والأسماء الحسنى هو الذي أوحى إليهم؛ إذًا فالذي حملوه وجاءوا به هو القمة فيما يهتدي إليه الخلق، ويمكن وصولهم إليه من أنوار بيان الحقيقة، وبيان معالم الطريقة كذلك، فيما يضبط حركة الناس ومسارهم في الحياة.
الموحى إلى الأنبياء هو الشأن وهو الشأو وهو الرفعة وهو العظمة، وهو الحقّ الخالِص، وهو الذي لم يأتِ وليدًا لفكر مخلوقٍ، ولا لنَظره، ولا باكتسابٍ لأحد من الإنس ولا الجن ولا الملائكة ولا من سواهم، فشأن ما جاء به الأنبياء وبلّغوه عظيمٌ كبيرٌ جليلٌ لمصدره ولأساسه وأصله أنه من عند الله.
(كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4))، هذا الإله بهذه العظمة هو الذي يوحي، فما أعظم هذه الأوامر والنواهي، وما أعظم هذه الأسس التي قامت عليها الشريعة:
-
واجبٌ ومفروض.
-
أو مندوبٌ ومسنونٌ ومستحب.
-
أو مباحٌ وحلال.
-
أو مكروهٌ ينبغي التنزّه عنه.
-
أو مُحرّمٌ يجب الاحتراز منه.
أُسس هذا النظام عظيمة؛ لأن الأساس فيها ما أوحى الإله العظيم إلى أنبيائه -صلوات الله عليهم- فلا يمكن لنظامٍ أن يقابل هذا النظام، ولا أن يقرب منه في العظمة وفي الحق وفي النفع للخلائق، وفي الحقيقة وفي الأصلح للخلق فإنه بيان خلّاق عليمٍ حكيم.
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)). -جلّ جلاله- الذي علا على كل شيء، علا عن فِكر المفكرين وعِلم العلماء، وعلا عن كل ما يتصوَّر المتصورون، فهو العليّ العلوّ المطلق -جلّ جلاله- العظيم العظمة المطلقة في كل شأنٍ من الشؤون.
قال: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ)، وفي قراءة: (يَنفَطِرۡنَ)، (مِن فَوْقِهِنَّ) كيف؟ بأمرين:
-
أمر كثرة هؤلاء الملائكة سكان السماوات
-
وكثرة تسبيحهم وتحميدهم.
حتى جاء في الحديث: أنه ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وعليه مَلَك ساجد لله تعالى، فقال: أطّت السماء وحُقَّ لها أن تئِط؛ ما من موضع أربع أصابع فيها إلا ومَلَكٌ واضعٌ جبهته ساجدٌ لله. فمن كثرتهم وعظمتهم وذكرهم لله؛ (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ۚ)، كل سماء فوق التي تليها.
(وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)؛ يقدّسون وينزّهون الرحمن، حامدين له، (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ) من المؤمنين (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ) الاستغفار الخاص للمؤمنين معلومٌ ومعروفٌ الذي به تُغفَر الذنوب وتُستَر العيوب، وأما من نظر إلى عموم معاني الاستغفار لمن في الأرض؛ مثل:
-
تأجيل العقوبة على الكافرين.
-
ومثل أنواع الرحمة التي تصيب الحيوانات والنباتات والجمادات وما إلى ذلك.
لكن الاستغفار بمعنى طلب الغفران عن الذنوب، هذا مخصوص بالمؤمنين، (لِمَن فِي الْأَرْضِ)، كما قال جلّ جلاله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر:7].
(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ)، لِمَا يرون من جراءتهم على الله، وكثرة غفلتهم، وحاجتهم للاستغفار، ولِمَا يتقرّبون به إلى الله -تبارك وتعالى- من الاستغفار للمؤمنين على ظهر الأرض؛ لِمَا علموا أن الله مَيَّز هذا الصنف من الخلق؛ صنف الآدميين والناس، وبداية تكوين أبيهم آدم قال الله للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة:30]، فهم يعرفون ميزة هذا الصنف من المخلوقات، فصاروا يتقرّبون إلى الله تعالى في السماوات بالاستغفار لهم.
كما أنهم رأوا أن الحق تعالى تَعَبَّد طوائف منهم بخدمة هذا الصنف من المخلوقات؛
-
ما بين حَفَظَة ومُعقِّبات يتعاقبون في الليل والنهار.
-
وما بين كَتَبَة ومُسجلِّين لِمَا يصدر من هؤلاء.
-
وما بين شاهدين لمجامعهم ولمجالسهم ولصلواتهم.
-
وما بين مُتَنَزِّلين عليهم في كل ليلة قَدْر، من كل عام يدخلون مساجدهم وأماكن صلواتهم وبيوتهم ويُسَلِّمون عليهم.
-
وما بين مستغفرين لمعلِّم الناس الخير.
-
وما بين من يضع أجنحته منهم إذا رأى طالب العلم النافع مخلِصًا لوجه ربّه، يريد فقه أحكام ربه والعمل بها؛ فيضعون له أجنحتهم.
كل هذا بَيَّن أن هذا الصنف مخصوص بخصوصياتٍ عند الرب، فبذلك كان للملائكة مسابقة إلى ذكرهم وإلى الاستغفار لهم، (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ).
إلى جانب أنه إذا أراد الله أن يعلن ما أخفى من محبة أحدٍ من خلقه، نادى جبريل وأمره، فقال: "إني أُحِبُّ فلانًا فأَحِبَّه"، فيتعبّدهم بحبّ هؤلاء المؤمنين على ظاهر الأرض، ويأمره أن ينادي في السماء: "يا أهل السماء إن الله قد أَحَبَّ فلانًا فأَحِبُّوه" قال: "فيُحِبَّه أهل السماء ويُوضع له القبول في الأرض".
(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ)؛ إذًا فهُنا علائق وروابط قوية وثيقة بين السماء والأرض؛ من حيث وحدة خالقها جلَّ جلاله؛ واحد هو، وله ما في السماء والأرض، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [طه:6].
فالموجودون في العالم الأعلى وهم المؤمنون به والعارفون به يحبّون مَن على ظهر الأرض من المؤمنين العارفين، ويودُّونهم، ويرون عناية الحق بهم وتنزيله الرحمات عليهم، واعتناءوه ببعث الأنبياء والمرسلين منهم، ولَمَّا ختمهم بمحمد رأوا الخصائص التي خصَّ بها أمّته، وأن يُبقِي فيهم من يحمل أسرار هذه النبوة والرسالة:
-
بالوعي والفهم للوحي.
-
والعمل به.
-
والتبليغ له والتعليم.
"يحمِلُ هذا الِعلمَ من كلِّ خلَفٍ عُدولُه، ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المبطلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ". وقال: "اللهم ارحم خلفائي قالوا: يا رسول الله من هم خلفائك؟ قال: "الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي وسُنّتي ويُعلّمونها الناس". وقال: "ولا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرّهم من ناوَأَهُمْ حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون"؛ ومن هؤلاء ثُلة أشار إليهم في أكناف بيت المقدس وبالشام لا يزالون على هذا الوصف:
-
من الوجهة للرحمن.
-
والفقه في دينه والعمل به.
-
وإدراك مقاصد الشرع المصون وبلاغ الأمين المأمون ﷺ.
إذًا، العلاقة قوية ووثيقة بين من في الأرض ومن في السماء، إلا أن السماء لا تقبل حلول الفجّار والكفّار ولا الأشرار، وليس لهم ممّن في السماء إلا التَّبَرِّي لمن سبقت عليه الشقاوة منهم بأن يُتَوَفَّى على الكفر والفسق -والعياذ بالله تعالى- من هؤلاء المكلَّفين.
والمنادي في مثل ليالي رمضان ينادي مَن على ظهر الأرض: يا باغي الخير أَقبِل، ويا باغي الشر أَقصِر؛ فبُغاة الشر لا ينالهم الاستغفار ولا الدعاء ولا المحبة من الملأ الأعلى.
والملأ الأعلى يحبون من على ظاهر الأرض من الأصفياء والأتقياء والصادقين المخلِصين والعاملين بطاعة الله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه. حتى أنَّ آثار ما يتجلى الحق عليهم عند توفيقهم للأعمال الصالحة يُحسُّ بها الملائكة في السماوات؛ من حيث صعود أعمالهم وظهور أنوارها، ومن حيث شمّ روائحها المعنوية الزكية، فتصعد من مجالس الخير على ظهر الأرض روائح زكية شذيَّة يشمُّها طوائف من الملائكة في العالم الأعلى.
ومنها ما جاء في بعض الآثار: أنه عند الصلاة على النبي المختار ﷺ من قِبَل أهل مجلسٍ، صادقين في محبة الله ورسوله؛ أن تشم الملائكة الرائحة المميزة بميزتها، فيقولون: هذه رائحة مجلس صُلِّيَ فيه على محمد في الأرض! صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وهكذا شؤون هذه الروابط والعلائق إلى حَمَلَة العرش ومن حوله، وذَكَرَ الله لنا نماذج من عبادتهم عند العرش وما حول العرش؛ يقول: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) -يذكرون المتعلّقين بهم- (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ۚ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر:7-9].
وهكذا حتى حدَّثنا صاحب الرسالة أنه في يوم وفاة سعد بن معاذ اهتزّ له عرش الرحمن فرحًا بقدوم روح سعد بن معاذ، الشاب الصادق مع الخالق ومع خير الخلائق ﷺ، الذي امتلأ إيمانًا ومحبة من رأسه إلى قدمه، وقد أدركه الموت وهو في نحو الأربعين، ولكنه الحي بالحياة العليَّة السَّنِيَّة -عليه رحمة الله ورضوانه- وقد اهتزّ لموته عرش الرحمن، رضي الله عنه.
يقول: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5))، قَبِلَ الاستغفار، وفتح بابه، ووَفَّق له، وشَغَل هؤلاء الملائكة بالاستغفار لهؤلاء؛ لأنه غفورٌ رحيم أراد أن يغفر جَمًّا، وأن يرحم بالرحمات العظيمة جلَّ جلاله.
(أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ)؛ أي: كثير المغفرة؛
-
فأعلى معاني المغفرة قد أعطاها للنبيين والملائكة بالعصمة، فَحَالَ بينهم وبين الذنوب والمعاصي أصلاً، وبين المكروهات وخلاف الأولى؛ فغَفَرها لهم، أي: جَعَلَ بينهم وبينها حاجزًا وساترًا، لا يقربون شيئًا منها.
-
ثم بعد ذلك مغفرات متعددات لمن وقع في الذنوب وفي المعاصي.
-
ومغفرات لأهل الدرجات العُلا عن هفوات قد تُعَدُّ عند من هو أقل منهم من الحسنات.
ثم مغفرته أيضًا سواءً هذه الهفوات بحسب المراتب، أو مغفرة الذنوب والسيئات بالنسبة للواقعين في المعاصي؛
-
منها ما يقتضي السترَ في الدارين.
-
ومنها -والعياذ بالله- ما يكون به فضيحة في إحدى الدارين ثم تَجَاوُز.
-
ومنها ما يكون به محو الخطيئة والسيئة حتى من صُحُف الملائكة ومن ذاكراتهم، حتى من ذاكرة العاصي نفسه، حتى من ذاكرة الأرض والزمن؛ فلا يشهد عليهم شيء.
ولكنها عند الله محفوظة، قد يُذكّر بعض هؤلاء بشيءٍ من هفواته، فيَخاف الهَلَكَة ويقول: ألم تغفرها لي؟ فيقول: سترتها عليك في الدنيا وأنا اليوم أغفرها لك! لا إله إلا هو..
وقد تنال المغفرة إلى حدود أن يتحول السيئة إلى حسنة؛ (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) [الفرقان:70]. ومن هؤلاء مَن ذَكَرَ ﷺ أن الله تعالى يأمر الملائكة أن يعرضوا عليه بعض صغار سيئاته، تُعرض عليه فيخاف ويخشى الهَلَكَة، فيُقال له: إنها قد بُدِّلت حسنات، فإذا رأى هذه الرحمة والكرم يقول: باقي ذنوب أخرى عندي غير هذه! بَقِيَت ذنوب وسيئات أخرى غير هذه، فيُقال له: قد بُدِّلت كلها إلى حسنات بفضل الله تبارك وتعالى.
وهكذا مراتب المغفرة من الله، فنسأل الله أوّسع المغفرة، وأتمّ المغفرة، وأشمل المغفرة، وأعظم المغفرة، يا غفور يا رحيم اغفر لنا بالمغفرة الواسعة، وارحمنا بالرحمة الواسعة، وارفعنا بذلك إلى الدّرجات الرّافعة.
يقول جلَّ جلاله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ):
-
بالآيات البيّنات أمامهم.
-
والحُجج الواضحات.
-
والرُّسل الذين أُرسلوا.
-
والكتب التي أُنزلت.
ثم يتخذون من دون الله أولياء من أصنامٍ، من كواكب أو نجوم أو شمس أو قمر، أو من بعضهم البعض؛ يخالفون أمر الله، ويوالون بعضهم البعض على مُخالفة شرع الله! قال: (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ)؛ رقيبٌ يرقُب كل ما يقولون وما يفعلون وسيحاسبهم عليه.
(اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6))؛ أنت بريء من كل ما فعلوا، ولا تُخاطب بذلك ما عليك إلا البلاغ؛ وإن امتلأ قلبك بالرحمة وتكاد أن تُهلك نفسك، (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر:8]، (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6))؛ يُسلّي الله نبيّه ويقول أمرهم إليَّ، وأنا الرقيب عليهم، ولستَ أنت بمسؤول عنهم، بل أنت مسؤول عن تبليغهم فقط، ونحن أعلم بمَن هم أولى بالنار صلّيّا، (وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء:17]. لا إله إلا هو، جلَّ جلاله.
يقول: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، كما يأتي معنا بعض هذه المعاني الشريفة الجليلة في الآيات العظيمة المُنيفة.
ربطنا الله بالقرآن ربطًا لا ينحلُّ أبدًا، ورزقنا كمال شُهوده، والاستقامِ على منهج خير عبيدهِ سيد المُوفِين بعهودهِ مُحمّد ﷺ، آمين يا أكرَّم الأكرَّمين.
فالعجب للبعيدين والغافلين كيف يشُكُّون؟ وكيف يجحدون؟ وكيف يُنكرون؟!
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَـةٌ *** تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ الواحِدُ
جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وفي ذلك يقول الإمام الحداد -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في خطابه للحقّ:
أَحَطْتَ عِلمًا سيدي *** بما تقاصى وَدَنَا
ولك المشيئةُ ما تشا *** كان ذليلاً مُذْعِنا
وَعَلَوْتَ عن إدراكنا *** وإن أطلنا الإعتنا
فنهاية المتعمِّقِينَ *** تحيّرٌ يا مُمْعِنا
ما عنه حِرْنَا إِنَّمــا *** فيه نَحْيِرُ لِعَجْزِنا
إنَّ الوجودَ بأسرهِ *** بالأحديّة مُعْلِنـا
بالأحديّة مُعلِنا؛ يشير إلى الواحد الأحد جلَّ جلاله.
بَهَرت بدائعهُ العقولْ *** فغدا الموفَّق مُوقِنا
وتثبّط الْمُتشكّكون *** فكأنهم ليسوا هُنا
سُحْقًا لمن يشك في *** الحـــــــقّ وقد تبيّنا
يــا أولًا يا آخــرًا *** يا ظاهرًا يا باطنًا
لك القِدَم ولنا الحُدوث *** ولك البقا ولنا الفَنَا
يا حَيُّ يا قَيّومُ إِنْ *** وَكَلْتَنا فَمَن لَنا؟
حاشاك أن تُهْمِلَنَا *** حاشاك أَنْ تُخَلِّنَا
يا أمل الْمُؤَمِّلِينْ *** ويا ملاذًا كُنْ لنا
فمنك كلُّ خِيرةٍ *** وكلُّ نعمةٍ بِنَا
(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53]، اللهم ما أصّبح بنا من نعمة أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر على ذلك.
أحسنتْ فيما قد مضى *** أَبِّـدْ وَزِدْ يا مُحْسِنَا
هَا أَنَا ذا عُبيدك الجــ *** ــاني الْمُقَصِرُ باِلْفِنَا
مُـسْتَغْفِرًا لذنـبــهِ *** معترفًا بمـا جــنــى
يَرَى افتقارهُ إليكَ *** على الدوامِ هو الغِنى
ولا غِنى غيره؛ لا لِمَلَكْ ولا لإنسيّ؛ لا غِنى إلا افتقاره إلى الغنيّ، افتقاره إلى الله هو الغِنى.
يَرَى افتقارهُ إليكَ *** على الدوامِ هو الغِنى
ولعزِّ قهركَ خاضعٌ *** متواضعٌ مُتَمَسْكِنـــــا
وَلَقَدْ سَبَتْهُ حُظُوظُه *** حتى لَقِيْ مِنْهَا الْعَنَا
مَلَكَتهُ أُمنياتُ نفسٍ *** هَمُّهَا عَرَضُ الدُّنَا
وَلَقَد أَتــــاكَ بِيأْسِــهِ *** عَمَّا سِواكَ وَلا انْثَنَى
صِفرُ اليَدَينِ يَمُدُّها *** فَأَنِلـــهُ غاياتِ المُنى
وَأَذِقْهُ بَردَ رِضاكَ عَنْـ *** ــهُ لِكَيْ يَدُومَ لَهُ الْهَنَا
وَأَحيِهِ لَكَ مُسلِمًا *** وَتوَفَّهُ بِكَ مُوْقِنَـا
وَاجعَلهُ يَومَ نُشورِهِ *** مِن كُلٍّ خَوفٍ آمِنا
يا رب اجعلنا يوم نشورنا من كل خوفٍ آمنين.
ربِّ احيِنا شاكرين *** وتوفّنـــا مسلمين
نُبعث من الآمنين *** في زمرة السابقين
بجاه طه الرسول *** جد ربنا بالقبول
وهب لنا كل سول *** ربِّ استجب لي آمين
في مثل هذه اللحظات تُشرق الشمس على مكة والمدينة المنورة، وساعة استجابة من الرحمن وعتقٍ لرقابٍ كثيرة على ظهر الأرض. فالحمد لله الذي أكْرَّمنا بالإسلام والإيمان، وحضور رمضان وإدراكه وبُلوغه وتيسير هذه المجالس فيه.
اللهم اقبلنا وأقبِل بوجهك الكريم علينا
اللهم اقبلنا وأقبِل بوجهك الكريم علينا
اللهم اقبلنا وأقبِل بوجهك الكريم علينا
انظمنا في سلك من أحببت وقرّبت واصطفيت واجتبيت من عبادك الصالحين، وحِزبك المفلحين الذين كتبت مرافقتهم لحبيبك الأمين، وقوِّ لنا يا ربنا مواهب المرافقة له، ووسّعها لنا وَعَمِّقها لنا واجعلنا من خواصّ أهل أقواها وأثبَتِها في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، وفي مواقف القيامة كلها وفي دار الكرامة، وفي الفردوس الأعلى، وفي ساحة النظر إلى وجهك الكريم يا كريم، آمين يا أرحم الراحمين.
بسِرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي مُحمّد ﷺ
12 رَمضان 1446