تفسير سورة الزخرف -10- من قوله تعالى: { فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) } إلى الآية 89 آخر السورة
الدرس العاشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) }
صباح الإثنين 10 رنضان 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مولانا الملك الحق الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، المنعم علينا بتنزيل الوحي، وتخصيص القرآن بحفظه إيّاه؛ حتى وصل إلينا كما أنزله على مصطفاه، وكما نطق به لسانه ﷺ وبارك وكرم عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى آبائه وإخوانه من رسل الله وأنبيائه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم الهداة، وعلى ملائكة الله المقرَّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ…
فإننا في نعمة تأمّلنا لكلام إلهنا وربّنا وخالقنا ووحيه وتنزيله؛ على لسان عبده وحبيبه ورسوله صلى الله عليه وصحبه وسلم، انتهينا في سورة الزخرف إلى أوائلها وقول الله -جل جلاله وتعالى في علاه-: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(83)).
فإنّ أكثر وعامّة ما يشتغل به الناس من المكلّفين ومعهم الجانّ على ظهر هذه الأرض، من كل ما لم يتصل بالمقصد الحسن ولم ينتظم ويتوافق مع منهج عالم السرِّ والعلن -سبحانه وتعالى-؛ خوض في الباطل ولعب في الحياة، وفيهم يتحقق قوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)، وليس عندهم شيء غير ذلك.
ومهما جاءت تسميات الثّقافة والتّقدم والتّطور والعلم وما إلى ذلك، فما عندهم غير هذه الأشياء (لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ).
والحال هذا كلّه من أوله إلى آخره قال الله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) -يعني: الزّرّاع- (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)، والدّار التي سننتقل إليها دار الأبد، هذه التي فيها الأمر الخطير، (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
(فَذَرْهُمْ)، اتركهم، دعهم. (يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)؛ لم يسمعوا النّصح والدّعوة إلى سلوك سبيل النُّجح، وأكبّوا على شهواتهم وأهوائهم.
(فَذَرْهُمْ)، اتركهم! إنما عليك البلاغ. ومهمّة من علّمه الله تعالى الحقيقة وأدركها، أن يحمده ويشكره عليها، ويؤدّي للنّاس ما قدر من النّصح والإرشاد والإنقاذ لهم بما يستطيع. ثم عليه أن يذرهم، أن يتركهم، فيما يلجّون به وفيه من باطل ومن غرور ومن زور. يتركهم ويعرض عنهم: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199] فهذا مسلك الأنبياء ومن أحسن اتّباعهم من الأولياء والعلماء والصّالحين.
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في باطلهم ويتقوّلون أقاويلهم الفاسدة.
(وَيَلْعَبُوا) في دنياهم وحياتهم بمظاهرها وزخارفها؛ (حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(83)) فأمامهم يوم موعود ذكرناه على ألسنة أنبيائنا من عهد آدم، وما من نبي إلا وذكَّر قومه وأمّته به، فاليوم الموعود يجدون فيه:
-
الجزاء والنّتيجة لكل ما عملوا؛ ولكل ما صدر منهم.
-
ولكل ما ضادّوا به شرع الله ومنهاجه.
-
أو آذَوْا به خلق الله -تبارك وتعالى-.
-
أو انتهكوا به الحرمات أو تعدَّوا الحدود.
سيجدون جزاء ذلك كله في اليوم الموعود.
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)، كما قال:
-
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42].
-
(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) -اللّهمّ اجعلنا منهم وأدخلنا فيهم- (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم:84-86] والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)، فإذا أُكرمت بهذا الإيمان وكنت في خير أمّة ثم تيسّر لك سبيل مثل هذا المجلس؛ سبيل جماعة في صلوات تُشرع فيها الجماعة من الفرائض والمسنونات؛ كالوتر في رمضان وكالتّراويح؛ ومجلس علم وفعل خير؛ فاغنم ذلك! فهذا غنيمة الحياة وهذا الذي يترتّب عليه الدّرجات في الدّار الآخرة: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:16]، فاغنم العمر واغنم الفرص واغنم ما يتيسر لك.
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(83)) يقول الحق سبحانه وتعالى ودلائله واضحة وظاهرة وجميع كائناته؛ حتى ذات الذي ينكر ويكابر ويلحد ويجحد مذكّراتٌ به ودلالات عليه؛ بل الجاحد وجحوده من دلالات عظمة الله، من دلالات وجود الله، ووجوده نفسه من علامات وجود الله، وإن جحد وإن استكبر.
فكلّه بتكوينه من النطفة وتحويلها إلى علقة ومضغة وإلى عظام وإلى كِسوتها لحم ثم سمع وبصر، ودم وعروق وخلايا، وعظام فيها تفصيلات وانكسارات وعطَفات، وشمّ وذوق وبصر وسمع. ما هذا؟! كيف جئت؟!
أنت دليل عليه وسمعك وبصرك وكلّ ما أنت؛ وحتى جحودك هذا قد أخبر أنهم أكثر ناسٍ يجحدون وأنت واحد من الأدلّة عليه. وجحودك هذا في كل شيء له، آية تدلّ على أنه الواحد -جل جلاله-.
قال: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ) لا إله غيره! وكلّ من في السّماء أيقنوا أنه لا إله إلا هو فيعبدونه لا يشركون به شيئا.
وهو (فِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ) لا إله غيره..
-
فمن استقام في عقله ومداركه وفهمه ووعيه وعلمه؛ أدرك أنه لا إله إلا هو فعبدك كما يعبده الملائكة في السّماء.
-
ومن انحرف في تفكيره وفي نظره وفي أسلوبه وفي ميله -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ صدّ عن سواء السبيل، وهم المخالفون من الإنس والجن فقط.
-
أما بقيّة الكائنات من النباتات والحيوانات والجمادات فكلها مسبّحة بحمده مقدسة له: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء:44].
فما يخرج عن هذا التسبيح إلا إرادة واختيار الفاسق والكافر من الإنس والجن فقط؛ قلبه الذي أراد واختار الفسق، هذا الذي يشذّ؛ وأمّا بقية الأشياء كلها مسبّحة بحمده مقدّسة لعظمته جل جلاله وتعالى في علاه.
قال: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84))؛ خلق الخلق لحكمة، وطوى عليها علمه، وأبرز للعقول ما تتحمّله من أسرار هذه الحِكَم في هذا الخلق والإيجاد.
-
(فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ) [التغابن:2].
-
(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:105].
-
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:2-3]؛ سبحانه؛ هذه حِكَم..
وكيف يُعرف الإيمان لولا وجود الكفر؟! وكيف يُعرف الصّلاح لولا وجود الفساد؟!
فكلّ شيء بحكمة: وجود الصّلاح و وجود الفساد، كله بحكمة عظيمة من الله تعالى؛ ليَصير النّاس إلى أن يحكم الخالق بينهم (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [السجدة:25]. وبالنسبة للمُكلّفين، استقرار أبدي: إمّا في الجنّة، وإمّا في النّار.
اللّهم اجعلنا من أهل جنتك، وادخلنا جنتك بغير سابقة عذاب، ولا عتاب، ولا فتنة، ولا حساب، شرّفنا بكريم المرافقة، لسيد أهل جنّتك، عبدك وحبيبك وصفوتك، محمد خير بريَّتك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84))، (الْحَكِيمُ) يضع كل شيء في محلّه، و(قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12] والعلم له، وليس لجميع العلماء في الأرض والسماء إلّا بمقدار ما علّمهم، وعلوم حادثة لهم، وكانوا (لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا) [المائدة:104]، وكل واحد من العلماء من البشر، خرج من بطن أمّه، لا يعلم شيء، ثمّ علّمه الله ما أراد، فالعلم لله! (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)).
(وَتَبَارَكَ -تقدس وتعالى وتعاظم- الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا):
-
(مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) وهذا ليس لغيره أصلا، وصورة الملك أيضا في الأرض، لا يمتدُّ لملوك الأرض على طول الأرض، ولو امتدّ على طول الأرض وعرضها، لم يبقَ؛ بل له بداية ونهاية، فالمُلك… المُلك الباقي للأرض والسماء، له وحده! له وحده!
-
(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وانظر إلى هذا المُلك الصُّوري، المَجازي، المُؤقّت! كم يتعبون عليه؟ وكم يتقاتلون عليه؟ و هذا يحبس هذا، وذا يقتل هذا، وذا يغتال هذا، وذا يُصلّح انقلاب على ذا، وذا يغتل، ماشي الملك! صور! صور.
المَلِك هُو! (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك:1]، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ) -هذه الحقيقة و- (الْمُلْكِ) -الصُّوري- (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ) [آل عمران:26].
إذًا! لمن المُلك إذًا؟
لا للمؤتى ولا للمنزوع منه؛ للذي يأتي و يَنزع هو الملك. هذا يُؤتى ويُنْزَع؛ إيش من ملك هذا؟! الملك الحقيقي له، هذه الصورة! (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26].
(وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا..)، كم يتكلّمون؟ وكم يتحدّثون عن القمر؟ عن الشمس! عن المرّيخ! عن الكواكب! عن النّجوم! وقبل شي وأربعين سنة.. شئ وخمسين سنة، قالوا: نحن وصلنا للقمر، وبعدين رحلة واحدة وانتهت ما عاد شي باقي..! وبعدين خلاص! خمسين سنة ما عاد في رحلة ثانية للقمر، هم كذبوا؟ هم صدقوا؟! هم ما قبلتهم؟! هم وصلوها ولا ما وصلوهم؟! وينازعهم الثانيين الذين يسمون أنفسهم مثلهم: علمانيين، يقولون لهم: كذّابين ما وصلتم ولا جئتم!.
طيّب فمن يملكها؟! ومن الذّي يُسيّر الشمس؟! ومن الذّي يتصرف في القمر؟! ويتصرف في الكواكب؟!
(وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا..) هل في شيء عندكم مِنْ هذا؟ فلماذا بالمُكابرة؟! لماذا بالمُعاندة؟! لماذا بالجحود؟! لماذا بالكفر؟!.
قال تعالى: (وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) وهذا علم ما أحد منكم يقدر يعلمه، متى؟
-
قُلْ: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً)
-
(لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) [الأعراف:187] -الله أكبر-.
حتى في ليلة الإسراء والمعراج، تذاكر كُبار خلق الله، وأئمة أهل قربه وحضرته من النبيين والمرسلين -صلوات الله عليهم- وصفوتهم تذاكروا أمر الساعة، فقالوا: لا علم لنا؛ تدافعوها؛ حتى وصل إلى عيسى بن مريم، قال: إنّ لي من الله عهد، أن أنزل إلى الأرض، وأحكم بشريعة محمد ﷺ، ويحصل كذا في الأرض، وأنّه عند ذلك، تصير الساعة كالمرأة الحامل، التي آن أوان مخاضها فقط؛ لا تحديد.. ما أحد يعلم شيء غير أكثر من هذا العهد الذي عهده الله لعيسى بن مريم.
(وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) -جل جلاله-.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(85)) ومرجعكم إليه، أنتم أين ترجعون؟ مسلمين ولا كافرين؛ مؤمنين ولا مُلحدين؛ طايعين ولا عاصين؛ ترجعون إلى من؟! وما ترجعون إليه! تنكشف لكم السّتارة عنكم، وعماكم، وظَلالكم، وظلمات فكركم الباطل، تنكشف عند الموت وتروح هذه الظلمات والأوهام كلها، وإذا بالأمر أمام عينك (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22]؛ وعلموا أنّ الأمر لله، والحق لله، و أنّ الصدق ما قال أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.
يقول: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) النّاس في نهاية المطاف، وعند الموت، يرجعون إلى الأحزاب ولاّ يرجعون إلى الدول ولاّ يرجعون إلى المؤسسات، أين يرجعون؟ كلهم من أولهم لآخرهم مرجعهم إليه، وإن كانوا الآن في قبضته وتحت قهره؛ لكنهم في حجب من أفكارهم الخاطئة وتصوراتهم الباطلة وستنكشف هذه كلها، بمجرد ما يصل الروح إلى الحلقوم يكشف الستارة وينظر لِعالَم الغيب الذي كنت به تكذب.
ولهذا يُبكَّت هؤلاء المنكرون لما أخبر الله ورسله من الحقائق الواقعة حتى عند الموت، وفي البرزخ، وفي القيامة، ويشوفوا حتى عند النار، يقولون (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا)؟ ما هذا؟! النار الذي كنتم بها تكذبون؟ (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا)؟ انظر قدامك ادخل النار (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) -يُبكّتون يقولون- (أَفَسِحْرٌ هَذَا)؟ ضليتم في الدنيا تقولون: (أَفَسِحْرٌ هَذَا)؟ [الطور:15-16]، كذب ماشي يدخل..
-
(هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين: 17]! -لا إله إلا الله- -جل جلاله وتعالى في علاه-.
-
(انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المرسلات:29] شوف ما تقولون ماشي، تشوف ما تشوف؟
-
يقول تعالى: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر:6-7].
-
(انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات:29-33].
اللّهم أجرنا من النار… اللّهم أجرنا من النار، أجر والدينا وأهلينا وأولادنا وذرياتنا وطلّابنا وأحبابنا وأصحابنا والمسلمين، يا من لا يجير غيره.
قال: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون:115-116] أن يخلق الخلق عبثا كذا، والمرجع إليه ويحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، ويا فوز من سعد بدخول الجنة ورضوان الرب، ويا خيبة وشقاء من أدخل النار وغضب الجبار عليه.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ (86)) قال الله تعالى: و (الشَّفَاعَةَ) عندي، هل هي لعبة؟ من أراد يشفع يشفع، أنا أقبل شفاعة من شهد لي بالحق بإذني (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة:255] تتخذون أصنامها، وتقول هؤلاء شفعاؤنا عند الله، من الذي يأذن لهم بالشفاعة؟.
من أين عندكم خبر أنهم شفعاء مقبولي الشفاعة؟! من قال لكم؟! فقط هكذا؟! لعبة هي؟! الأمر أكبر من لعب وخيال! قل لي: من قال لك أن هذا يشفع؟
-
(مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ) [الزمر:3].
-
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر:28].
كذابين، إذا احد سبّ أصنامهم يسبّون الله، فلو كانوا يريدون يتقربوا بهم إلى الله لن يسبّوا الله، كذابين هم، ويعبدون غيره ويقولون شفعاؤنا عند الله قل: (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ) [الرعد: 33].
(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ) يعبدونهم من دونه -سبحانه وتعالى -الشفاعة- لا يملكون الشفاعة -أنا صاحب الملك وأُشفّع من شئت فيمن شئت بإذني- لا تتخذون أصنام وتقولوا شفعاء! بإذن من يشفعون؟!
(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ) من جميع أصنامهم والهتهم الشفاعة، (إِلَّا) قال الله: أُعطي الشفاعة وأمكن منها (مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ).
-
(شَهِدَ بِالْحَقِّ)؛ أيقن بـ لا إله إلا الله فآمن به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
-
( شَهِدَ بِالْحَقِّ)؛ شهادة وقف فيها على حقيقة اليقين والذوق.
قالوا: (إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ) هؤلاء الذين يشفعهم الله تعالى فيمن يشاء بإذنه (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة:255] كما قال حتى في الملائكة (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ) [النجم:26].
فما يتأتى أحد من دونه يشفع عنده، وكيف من دون إذنه يشفع عنده؟! عنده يشفع من دون إذنه؟! في إله ثاني يُفرض عليه أو كيف؟! هو الإله وحده، فما يمكن أحد يشفع عنده إلا من أذن له؛ ولا يأذن إلا للأنبياء والعلماء والشهداء، ومن شهد بالحق: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ ..(86)) مثال:
-
سيدنا عيسى بن مريم.
-
سيدنا عزير.
هولا شُفّع عنده لكن لا يشفعون في الكفار، فلا تقبل شفاعة في كافر، قال الله عن الكفار: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48]؛ لا يقبل الله الشفاعة في الكفر، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:48].
قال: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86))، علم اليقين أو وهم يعلمون حتى هؤلاء الكفار، يتخذون لهم آلهة من دون الله، فإذا اشتدت عليهم أزمة في بحر أو غيره؛ نسوا آلهتهم وقالوا: يا الله، حتى أنتوا دارين! يعني قلوبكم تشعر أن ما في أحد غيره يُقدّم ولا يُؤخر ولا ينفع ولا يضر، (وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) [الأنعام:41] من دونه، وتقولوا: يا الله يا الله يا الله ..
-
(لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [يونس:22-23].
-
(وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ) [يونس:12].
قال: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ)، يقدروا يقولوا صنم! ..صنم، الصنم هو الذي صلحه هو أول أمس، هو قام يصلحه هو أول أمس، كيف خلقه؟ ومَن خلقك أنت؟
-
(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (87)) خالقكم، مُكوّنكم، مُوجدكم، مُنشئكم، مُنعم عليكم، تنصرفون إلى غيره؟.
-
(فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) إذا هو الخالق -جلّ جلاله- فكيف تأفكون؟ تقلبون الحقيقة، تخرجون عن البرهان الواضح، تنصرفون إلى غيره وما حقَّ لكم أن تنصرفوا إلى غيره وهو الخالق.
(فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلَهِ يَا رَبِّ)، في قراءة: (وقيلِهِ)، وفي قراءة: (وقيلُهُ)، (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ)، أي: وقول نبينا -صلّ الله عليه وصحبه وسلم- قول نبينا: يا رب، فهو كما قال في الآية الأخرى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30]، والأنبياء يرجعون إلى ربهم عندما يوضّحون السبيل، ويقوّمون الأدلّة، وينكِر عليهم قومهم، ويعاندونهم، يرجعون إلى ربهم، يقول: يا رب إن هؤلاء قومي كذب.. إن هؤلاء قومي كذب، وقيل ﷺ: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88)) آية بعد آية بعد آية، وكان من الآيات البيّنة:
-
وجهه الكريم وجهه الشريف ﷺ، "من نظر في وجهه علِم إنه ليس في وجهه كذاب".
-
وجهه وأخلاقه شمائله وصدقه من أيام صغره ما كذب قط.
-
وفوق ذلك آيات بينات؛ وتحدي لا يقدرون يأتون بمثل القرآن.
-
وقمر ينشق.
-
وآيات بعد آيات لا يؤمنون.
(إِنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88)).
يقول الله لحبيبه: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) -أعرض عنهم واتركهم- (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ).
-
(قُلْ سَلَامٌ): أنا ما جئتكم إلا للهدى وللخير والإرشاد والإنقاذ ولا يأتي مِن قِبلي إرادة سوء ولا ضر ولا شر بأحد قريب أو بعيد، ولكن من صد وكابر وقاتل هذا؛ فأرده وأصده وأُجاهده في الله -سبحانه وتعالى- أما من قِبلي لا يأتي إلا السلام.
-
(وَقُلْ سَلَامٌ):
-
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63]
-
وقالوا: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) [القصص:55].
-
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89))؛ سيتضح الأمر وتظهر الحقيقة للكل والكل سيخضع ويناد الملك الأعلى (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) يا مُغترّين بملكهم، يا مغترين برئاستهم، يا مغترين بدولهم (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16] -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)) سيقفون على الحقيقة ويُذعنون شاءوا أم أبوا بعظمة الإله الذي خلق وأن المرجع إليه -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، زدنا اللهم إيمانًا، زدنا اللهم يقينًا، زدنا اللهم توفيقًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ)، (هُوَ)..(هُوَ)..(هُوَ)، ما شيء في السماء إله غيره، ما شيء في الأرض إله غيره.
وهُوَ..وهُوَ..(وهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ)، (وَهُوَ):
-
في السماء إله وفي الأرض إله.
-
وفي الدنيا إله وفي البرزخ إله.
-
وفي القبر إله وفي القيامة إله.
-
وفي الجنة إله وفي النار إله.
(هُوَ).. (هُوَ)..(هُوَ الَّذِي) هو إله في كل شيء في كل موطن وفي كل مكان لا أحد إلا هو واحد، لا إله إلا هو كما قال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام:3]، سبحانه عز وجل.
رزقنا الله كمال الإيمان، كمال اليقين، كمال التقوى، يا من لا إله غيره ارزقنا الولع بألوهيتك، وأدب مع ربوبيتك؛ حتى تتولى ربوبيتك عبوديتنا، ونرقى مراقي شهودك الأسنى بمرآة حبيبك المصطفى الأسمى صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في خير ولطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
12 رَمضان 1446