تفسير سورة الزخرف -06- من قوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)} إلى الآية 56

للاستماع إلى الدرس

الدرس السادس من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)}

صباح الخميس 6 رمضان 1446هـ 

 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مُكرمنا بالقرآن وعجائبه وغرائبه ومواهبه وبيانه على لسان سيد الأكوان، حبيبه المصطفى المُنتَقى المختار، محمد بن عبد الله عظيم القدر والشأن، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه في كل لمحة ونفَسٍ وآنٍ، وعلى آله وأهل بيته المطهرين عن الأدران، وعلى أصحابه الغُرِّ الأعيان، وعلى من والاهم في الله واتبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفَع الله لهم المنزلة لديه والمكان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم أُولِي الإيقان، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعد:

 فإننا في تأمل كلام ربنا وتعليمه وصلنا في سورة الزخرف إلى قوله -جلَّ جلاله-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ..(46))، يقول -جلَّ جلاله-: ومن أمثلة الذين أرسلنا من قبلك موسى -على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم-، فسيدنا موسى الكليم اعتنى الله بتكرير قصته في الكتاب العظيم مرات كثيرات، ولمَّا تقدَّم قوله:

  • (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ(45))، والمراد سؤالهم في اجتماعه بهم في ليلة الإسراء والمعراج واجتماع روحه بأرواحهم. 

  • وكذلك سؤال مَن اتّبعهم أو المؤمنون من أتباعهم ممن اتبع الرُّسُل (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ).

  • حتى تُنبئ قومك قريشا ومن معهم أنه لم يكن في رسالة رسول قط إذنٌ بعبادة غير الله -جلَّ جلاله- ( (أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ). 

وموسى مِن خواصِّ مَن كان بينه وبينهم اللقاء، قال له في آية أخرى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) [السجدة:23]، (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ): مقابلته ولقائك به. فذَكَر -سبحانه وتعالى- هذه القصة هاهنا؛ إذ أرسله إلى مَن اِدَّعى الألوهية -والعياذ بالله تبارك وتعالى- من دون الله وادَّعى أنه الرب الأعلى ثم قال بعد ذلك: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص:38].

  • (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ) نبَّأناه وبعثناه بخطابنا وديننا الحق.

  • (بِآيَاتِنَا) الدلائل الواضحة على قُدرتنا المُنبئة بصدق هذا المُرسَل وأنه جاء من قِبلنا. 

  • (إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئهِ) المقربون إليه من الوزراء وأرباب الوجاهات والنفوذ. 

  • (إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) بلَّغهم الرسالة سيدنا موسى -عليه السلام- فكان منهم الإنكار والاستكبار في تبعية فرعون.

ويُشيرنا الحق تعالى إلى أنَّ أرباب الضلال والفساد لكل زمان؛ عناصر تجتمع وتتمالأ على الباطل وعلى الشر والفساد، ويؤازر بعضهم بعضاً في ذلك، قال -سبحانه وتعالى- في الآية الأخرى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود:96-97].

  • فاتباعُ مَن ليس على رُشد هو رأس الضلال في الحياة ورأس الفساد في واقع الخلائق،

  • اتِّباعُ الأدعياء، اتباع مَن يقول: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29]. 

  • اتباع مَن يَستَخِف في الناس بأيِّ صورة من الصور وبأيِّ أسلوب من الأساليب ووسيلة من الوسائل؛ 

كحال الاستخفاف الواقع اليوم عند كثير -حتى من المسلمين- استخفَّهم مُفسِدوا الأرض وساقطوها، ممن لا قِيَم له، وأوحوا إليهم أننا وأننا! ولا طريق لكم إلا من عندنا! ولا رِفعَة لكم إلا بنا! كما يوحي فرعون إلى قومه: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)، (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)،

  • والنهاية: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود:97-98].

فالحق يُحذِّرُ الأُمَّة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)، تخسرون ثرواتكم، وتخسرون اقتصادكم، وتخسرون اجتماعياتكم، وتخسرون سياستكم؛ كل شيء تخسرونه، ويجعلونكم وراء: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) -وراء- (فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ). 

وإن أردتم الحقيقة: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)، اتصلوا به وقوموا بأمره وسينصركم. 

إذا قمتم معه فكل مَن ناوأكم: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) [آل عمران:150-151].

ويقول في الآية الأخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)، يردونكم إلى الكفر -والعياذ بالله- (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران:100-101]، وهكذا حذَّرنا الحق مِن تبعية مَن ليس برشيد.

قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا) مِن مثل عَصَاه ويده وما لَحِق ذلك من الآيات من الدَّم والضفادع والقُمَّل وعجائب.. أرسلها الحق إليهم، وفي كلها يرجعون إلى موسى يقولون: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) وإذا انكشفت عنَّا هذه الشِّدة سنُسلِم وسنُسَلِّمك بني إسرائيل نعطيك إياهم، ويدعو سيدنا موسى ويكشف الله العذاب، لكنهم يرجعون ثاني مرة (إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50))، وهكذا توالت عليهم الآيات وهم يرجعون إلى غيِّهم.

(إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46))، مُكَوِّن الأكوان وخالق الإنس والجن والملائكة، يعني اعقلوا في فكركم وتصوركم للحياة: تعبدون مَن؟ والمُكَوِّن مَن؟ والإله مَن؟ والخالق مَن؟ ما لكم؟! (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا) -واحدة بعد الثانية- (إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47)) يستهزئون ويسخرون ولا يهتدون. في البداية قالوا سحر وغُلِبوا، وما كان سحرهم شيء، هم والسحرة الذين عندهم، وآمن السحرة، قال الله: (وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا):

  • واحدة بعد الثانية (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ) [الأعراف:133]، فهربوا ورجعوا إلى موسى: ادعُ ربك.. 

  • (وَالْقُمَّلَ)، اِفتكَّت عليهم وسط ديارهم ووسط منازلهم ووسط ثيابهم ووسط صناديقهم ووسط أمتعتهم ووسط طعامهم.. قُمَّل قُمَّل قُمَّل قُمَّل قُمَّل (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ).

  • (وَالضَّفَادِعَ) وسط القدور ووسط الطعام ووسط الثياب.. ضفادع ضفادع، ما قدروا يدفعونها بشيء!.

  • (وَالدَّمَ) [الأعراف:133]؛ يحط ماء يصبح دما، يطبخ طعاما يصبح دما، ما هذه المشكلة؟! وتحوَّل كل شيء عندهم دما (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) [الأعراف:134]، ودعا ربه ونكثوا!

(وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48))؛ رحمة مِنَّا، وبلوغا إلى أقصى ما يُمكن من التفهيم والمراجعة، وتيسير السبيل؛ للذكرى وللرجوع؛ وهذه معاملة الله مع خلقه، وما أعظم كفرانهم! (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) -جاحد- (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) [العاديات:6-7]، (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس:17].

وفيما أصابهم من هذا العذاب والشدائد (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) كيف يا أيها الساحر؟! الساحر: يعني قصدهم أنت الآن الرئيس في العِلم، وهذا كان عندهم إذا أرادوا مدح أحد يقولون ساحر، فما كان هذا عندهم ذم ولا عيب، فالسحرة عندهم هم أعلى الطبقات، (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ)  يعني الذي غلبتنا بسحرك ولم ينفع سحر غيرك أنت الكبير، (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ)؛ لأنه الآن في وقت ضعفهم ووقت حاجتهم يأتون يتملَّقون لسيدنا موسى (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ) أعطاك عهدا قال إذا آمَّنا أنه يكشف العذاب عنَّا فالآن يكشف عنَّا العذاب: (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الأعراف:138]، (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50)) -والعياذ بالله تعالى-.

(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)) سنُسلِّم ونخضع ونعلم أنك رسول من عند رب العالمين وسنسلِّم لك بني إسرائيل، (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50)) يُخالفون وينقضون عهدهم ومواثيقهم ويرجعون إلى كفرهم، واستمرارا وراء الزيغ والضلال والدعايات والنداءات والاجتماعات والترتيبات -كما يفعل المفسدون في كل زمان-.

(وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) نداءات وخطابات وإعلام ودَرْبَكَة ودَرْبَجَة -كما يعملون في كل وقت حتى الآن- (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ): 

  • أنا الملك فوقكم ما ترون عظمتي؟! أي عظمة؟ لا قدرت ترفع الدم ولا قدرت ترفع القُمَّل ولا الجراد ولا الضفادع، وجئت بالسحرة وغُلِبوا قُدَّامك! ولكن تَشَدُّق وتَمَحْذُق -نفس الحالة في كل وقت-

  • (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) وهكذا قولهم: ألسنا ملوك العالم والأمر تحت يدنا، كيف وإذا فيضان ما تقدر ترده! وإذا حريق ما تقدر تبعِّده! ولكن خلاص (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)؛ هذا شأنهم!

(أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) تجري تحت قصوري، وفيه معنى أراد أن يقول: بإذني تحت أمري.. يدَّعِي ما ليس له، إذا تجري بأمرك تعال؟ ستغرقك بعد وتذهب فيها، ولكن دعاوي!

  • (وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)) ما ترون العظمة؟ ما ترون الرِّفعة والعلو؟ (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) -يعني بل أنا خير- (مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) -أوه! يقصد سيدنا موسى! مهين يعني: حقير، -أعوذ بالله- (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)) فيه لَثْغَة في لسانه ما يوضِّح الكلام سواء. وقد غلبك وغلب قومك وخضعوا قُدَّامه.. ما لك؟ لكن سب وشتم! (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)).

وأسلوبهم هكذا يتكلمون على الصالحين والأخيار! وساعة يقولون لنا متخلفين، وساعة يقولون لنا متشددين، وساعة يقولون لنا متحجرين، وساعة يقولون لنا… (مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52))، هذا منطق المفسدين في كل وقت، يتكلمون على الصالحين والأخيار: ايش هذا؟ ايش معهم؟ وايش عندهم؟ ساعة متخلفين، وساعة متحجرين، وساعة غير فاهمين، وساعة كذا وساعة…!

  (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ) والناس عقولهم حول الذهب، ويريدون أعرافهم وعاداتهم يحكمون بها مُلك المَلِك وحكمة المَلِك ونبوة الأنبياء، بغوها مثل الأعراف حقَّهم إذا أرادوا تقديم واحدا يُعظِّمونه عندهم كالملوك يجيبون له: (أَسَاوِرَ مِّن ذَهَبٍ)، في قراءة: (أَسْوِرَةٌ) جمع سِوَار، وفي قراءة: (أسَاوِرَ) جمع أَسْوِرَة.

يقولوا: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَ مِّن ذَهَبٍ) إيش معه هذا؟ لا شيء عنده؟ -الذهب الذي يذهب وأنت تذهب قبله- قال: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)) يعني يقارن بعضهم بعضا واحدا بعد الثاني، يُصَدِّقونه ويكلمونه وقُدَّامنا كذا، هل في أحد من الرسل جاءوا والملائكة كذا معه يظهرون؟ إذا يدخلون عليكم الملائكة؛ خلاص أنتم رسل لا تحتاجون رسلا!  

  • (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) [الإسراء:95].

  • (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا) [الإسراء:94].

أوه! أنتم بشر! ومن عهد أبوكم آدم أنا أبعث مَن إليكم؟ ما أبعث إلا منكم بشرا! آدم وشيث بن آدم وإدريس وكلهم الرسل الذين مضوا.. بشر! واستمروا على ذا الحال إلى أواخرهم! عدُّوا مئات من الرُّسل، ولمَّا بُعِثَ النبي قالوا بشر! وبعدين؟ والمئات هؤلاء كلهم ايش؟ الرسل كلهم بشر! و لكن هكذا التَّشَبُّث بالباطل!

قال: (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) استخف بعقولهم، استخف بفكرهم، استخف بتصوراتهم؛ حتى يُكذِّبوا موسى ويصدقونه ويمشون وراءه ويسجدون له ويعبدونه، (فَأَطَاعُوهُ) في تكذيب سيدنا موسى الكليم -عليه السلام- وأخيه هارون وما جاءوا به من الله تعالى، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54))، خرجوا عن العقل وعن الفطرة وعن شهود الآيات البينات واتبعوا الكلام الفارغ هذا (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ).

قال الله: (فَلَمَّا آسَفُونَا) أغضبونا، أي اشتد غضبنا عليهم؛ (انتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، وهكذا "إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم:42]، (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم:45].

قال: (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)) رأسهم فرعون ومن معه من المُرَتِّبين أنفسهم رافعي القدر بين الملأ، في يوم واحد في ساعة هلكوا أجمعين (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:102-105]، تَخْرَس الألسنة كلها والكلام الباطل كله يضمحل: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، -صلوات الله عليهم-.

قال: (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا) يعني قوم ماضين خلاص ما عاد لهم وجود ولا عاد لهم سلطة ولا عاد لهم … 

  • (سَلَفًا) يعني ناس ماضون انتهوا روَّحوا خلاص، صاروا أثرا بعد عين. 

    • قال -سبحانه وتعالى- في قوم سيدنا هود لمَّا كذَّبوا وأرسل عليهم الريح قال: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) [الحاقة:7-8]. (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا) كانوا، خلاص كانوا، ما عاد لهم وجود، ما عاد لهم شي، كانوا (سَلَفًا).

  • (وَمَثَلًا) عبرة وعِظَةً للآخرين، لمن يجيء بعدهم فيعتبر، (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) [يونس:92].

يقول -سبحانه وتعالى-: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ) والكُلْمان ذاك وينها كلها؟! (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي)، (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات:24]، (أَمْ أَنَا خَيْرٌ)! آمنتُ! (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، قال: (آلْآنَ) [يونس:91]، هل ينفع الإيمان عند الموت؟!

كلهم سيؤمنون! من لا يؤمن منهم؟ أفسد المفسدين وألحد الملحدين في العالم عند الموت يؤمن، لكن ما ينفعه الإيمان، كلهم عند الموت يوقنون أنَّ محمدا هو الصادق وأنه خير الخلائق لكن ما ينفعهم شيء، لو آمنوا من قبل لنفعهم، وإلا كلهم يؤمنون.. مَن  سيبقى كافرا؟ تريد الكفر أيام التكليف بس، أمَّا بعد ذلك لايبقى كفر، إيش من كفر؟ يُسمون كافرون بما كان منهم أيام التكليف في الدنيا، أمَّا  في الاخرة يقولون ربنا ربنا ربنا ربنا.. خلاص كلهم مصدقون (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) [الفرقان:27]، خلاص لا يبقى كفر أصلا، لا مجال للكفر، لأنه كله ضلال وكله باطل وكله فساد، والناس كلهم يؤمنون لكن لا ينفع الإيمان، لو كان في الحياة قبل؛ أيام التكليف والاختبار..ينفع، أمَّا من بعد.. خلاص لاينفع! 

  • قال: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام:158]. 

  • (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) [النساء:18]. 

  • قال -سبحانه وتعالى-: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) جاءتهم الآيات والقوّة والعظَمة آمنوا (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) [غافر:85].

يقول: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ (56)) عبرة لمن يعتبر ويدَّكِر ويتَّعِظ، وهكذا كم من عبرة؟ فرعون وحده هو؟ والذي قبله والذي بعده؟ وكم وكم وكم! (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر:2].

  • فوجب أن نخضَع ونخشَع،

  • وأن نتَّبِع طريق إلهنا الذي أرسل الرُّسُل وختمهم بسيِّدهم الذي به شُرِّفنا؛ محمد صلى الله عليه وعلى آله.

وبدعوته وببعثته وبهِمَّتِه وببركته؛ نحن في رمضان، وفي صيام في رمضان، وفي قيام رمضان، وفي جلوس في هذه المجالس، (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران:164]، لكن لمَّا جاء الحبيب: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران:110].

ووَقَف مَن وقَف مِن السابقين من المهاجرين والأنصار وخيار الأمة وصلحائها؛ أئمة دين الله وأئمة خلق الله وأئمة عباد الله -سبحانه وتعالى-، وهُداتهم إلى الحق والهدى؛ لهم الرِّفعة والكرامة إلى أواخرهم. أواخرهم: بعد نزول سيدنا عيسى بن مريم -عليه السلام- ومن يتبعه، وما بعده إلا الآيات الكبرى حين تَهِبُّ ريحٌ يَخطِفُ الله بها روح كل مَن في قلبه ولو مثقال ذرة من إيمان، فلا يبق على وجه الأرض مؤمن، بل شرار الخلق عليهم تقوم الساعة -والعياذ بالله-.

فالحمد لله على نعمة الإسلام..

  • وأنتم بهذه النعمة هُداة لخلق الله -تبارك وتعالى-،

  • ومحل نظر من قِبَل المكوِّن والخالق في هذه المهمة على ظهر الأرض للمكلفين،

  • فاعرفوا قدر ما آتاكم الله. 

قال تعبيرا عن هذا الإدراك لهذه النعمة سيدنا رِّبْعِي بن عامر يقول لرُسْتُم قائد جيوش الفرس: الله ابتعثنا لنُخرِجَ العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة" -عليه رضوان الله-، هذا وعيهم وهذا إدراكهم لمهمتهم، وما خصهم الله به ببعثة محمد ﷺ.

فالحمد لله الذي جعلنا من أمته، فاجعل كل واحد من الحاضرين ومن السامعين ومن المشاهدين والمتابعين قائما بحقِّ الحقِّ في متابعة سيِّد الخلق، تهديه وتهدي به سواء السبيل، مفتاحًا للخير مغلاًقا للشر، يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي الأمين ﷺ 

اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

07 رَمضان 1446

تاريخ النشر الميلادي

06 مارس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام