تفسير سورة الذاريات، من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، الآية: 47

درس الفجر الرمضاني 1444هـ.jpeg
للاستماع إلى الدرس

الدرس الخامس من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الذاريات، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:

{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}

​​​​​​

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مكرمنا بالوحي والتنزيل، وبيانه على لسان عبده المصطفى خير معلم وهاد ودليل، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك المختار سيدنا محمد الهادي إلى أقوَم سبيل، وعلى آله وأصحابه وأهل مودته واقترابه وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، أكرم من وعى عن الحق تبارك وتعالى كريم خطابه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 أما بعد: فإننا في نعمة تأملنا وتدبرنا لكلام ربنا وإلهنا وخالقنا جل جلاله وإرشاده وتعليمه وتبيينه، انتهينا في أواخر سورة الذاريات إلى قول رب الأرضين والسماوات ومنشئها وخالقها، ومكونها و فاطرها ومبدعها -جل جلاله- : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)} لم يشاركه في خلق السماوات والأرض أحد -جل جلاله- تفرد بخلقها، وما فيها، فما كان لأحد من العقلاء المكلفين على ظهر الأرض أن يصرفوا عبادتهم إلى غيره، ولا أن يصرفوا رجاءهم إلى غيره، ولا أن يصرفوا خوفهم إلى غيره، ولكن ما يلصق بهؤلاء من الطغيان والعدوان والظلمة والحجاب يوقعهم في ذلك، وإلا ما كان لهم فإنه الواحد الذي تفرد بالخلق والإيجاد، وكون لنا الأرض ورفع فوقنا السماوات بغير عماد.

يقول -جل جلاله- : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا}، كونَّاها وخلقناها، وفطرناها وابتدعناها وأوجدناها {بِأَيْيدٍ} أي: بعظيم قدرتنا التي لا حد لها، ولا لأحد قدرة إلا ما أقدرناهم عليه في قدرات محدودات، معلولات ناقصات قابلات للزوال، فما يقتدر إنسي ولا جني ولا حيوان ولا نبات ، على أن ينبت أو أن يتحرك أو أن ينمو أو أن يحصل منه شيء إلا بإقدار الحق له، ولو سلب عنه القدرة في أي شيء وقت لم يستطع شيئًا، القادر على الكلام لو سلب الرحمن القدرة منه على الكلام لأُخْرِسَ ولم يستطع أن يتكلم والقادر على النظر لو أراد سبحانه وتعالى لنزع منه نور البصر فلم يبصر، فما قدرات الخلق إلا مستعارات عاريات من القدير -جل جلاله- صاحب القدرة {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} أي: بقدرة فهو القدير على كل شيء، والانتهاء في معلوماتنا ومداركنا إلى استبيان هذه الحقيقة وتمكنها من أعظم مقاصد خلق الوجود {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..} [الطلاق:12]، فانظر إلى أي رتبة وصلت في إدراكك لقدرة الله ويقينك أنه على كل شيء قدير؟

ومهما أيقنت أنه على كل شيء قدير اعتمدت عليه واستندت إليه، وأنزلت حاجاتك به، وخفته وهِبته، وامتثلت لأمره، واجتنبت نهيه، وما حرّم عليك فإن الآمر الناهي قدير، يوقع بك ما يشاء ولا ينجيك أحد، ولن ينجيك أحد، فبذلك تمتلئ معرفةً بهذا الإله إذا تيقنت أنه على كل شيء قدير.

اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين والعلم أنك على كل شيء قدير، وأنك قد أحطت بكل شيء علمًا، يقول -جل جلاله-: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون} أي: أغنياءُ، واسع القدرة، واسع التصرف، واسع الأرزاق، نوسع على من نشاء، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} نقدر على أن نخلق أرضًا غيرَ الأرض وسماءً غيرَ السماء، وأن نخلق ما شئنا من الأمور الأخرى، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}.

ويرى أيضًا بعض العلماء المتابعين لشؤون هذا الفلك والكواكب أنها تتسع في الحديث أن من علامات الساعة أن تكبر الأهلة فيدخلُ في معنى {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ومعناه واسع، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} فبمن تغترون؟! بمن يخلق جهاز، أو يأتي لك طائرة بدون طيار، أو يصلح قنبلة ذرية، انظر خلق السماء من فوق قل له فليخلق فوق رأسه شيئا يسيرا يظلهم من دون عمد، لا إله إلا الله {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون} هذا وما يخلق من قدرة الذي خلق -جل جلاله- {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات:96] {والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} بسطناها، بسطناها لكم بهيئة في البساط مُمَهدة لتستقروا عليها، وتمشوا في مناكبها، وتنتفعوا بها وتستفيدوا منها، تحفرون آبارًا وتزرعون زرعًا، وتبنون بناءً وتمضون ماشين وراكبين، وهي ممهدة من الذي مهدها؟ ويُرينا -سبحانه وتعالى- عظيمَ تمهيده؛ لنتذكر في زلازل تحصل، أترى لو زلزل الأرض تقومُ على ماذا؟

وتعتمد على ماذا؟ وهل يمكن تقول: يا أمم متحدة امسكي الأرض؟ ممكن! ممكن تقول: يا طائرة بدون طيار امسكي الأرض؟! ممكن تقول: يا قنبلة نووية امسكي الأرض؟! {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41] -جل جلاله وتعالى في علاه- الله أكبر.

{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} بسطناها بساطًا لائقًا ممهدا لتسكنوا عليها وتبنوا عليها وتزرعوا فيها وتحفروا فيها وتستخرجوا من معادنها الله أكبر {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} نعمَ الباسطون لها بهذا الأسلوب العجيب {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ:6] ممهدةً كما يُمَهدُ المهدُ للصبي ويراعى مقدرته وضعفه وعجزه ويصلح لهُ مهد يضمهُ ويحيط به ويمسكه ويطمئن عليه.. والأرض كلها مهد جعلها الله لك يا ابن آدم {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}.

ما أعظم ما فرشت لنا، وما أعظم ما بسطت لنا، ولن يقدر على ذلك غيرك لا إله إلا أنت؛ فارزقنا الأدب معك والإخلاص لوجهك والعملَ بطاعتك على ظهر هذه الأرض، أنت تحت سماء بناها هو وحده، وأرضٍ فرشها هو لك هو وحده تعصيه؟ تعصيه؟ تخالفه؟ تخرج عن أمره؟ أيليق بك هذا؟ لا إله إلا الله.

ولذا جاء في بعض ما أنزل الله في الكتب السابقة: (من لم يصبر على قضائي، ويشكر نعمائي فليخرج من فوق أرضي ومن تحت سمائي وليتخذ له رباً سواي)، من أين تقدر؟ ولهذا قال بعض الصالحين لتلميذه وهو يعظه يقول: مهما أردت أن تعصي الله تبارك وتعالى فاخرج من فوق أرضه، أخرج من أين؟! قال: لا طريق لذلك، فمهما أردت أن تعصيه فاخرج من تحت سماؤه، أخرج أين؟ أين أروح؟ {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)} [الرحمن:33]، قال بس إذن فلا تأكل رزقه إذا تعصيه لا تأكل رزقه قال كيف أعيش؟ قال يا هذا فوق أرضه وتحت سماءه وتأكل رزقه وتريد تعصيه؟! ما تستحي على نفسك؟ لا إله إلا الله فما أظلم ابن آدم {قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17]

قال: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ..} اثنين متقابلين أرض سماء، بر بحر، إيمان كفر، خير شر، صحة مرض، متقابلة الأشياء وما من شيء إلا له مقابل إلا واحد هو الله، ما يقابله شيء، الكل خلقه وعبيده ما شي له مقابل ثاني أبدًا لا ثاني له،  ولكن كل شيء غيره له مقابل أنسي جني، ذكر أنثى، صغير كبير، أمير مأمور، قريب بعيد، حي ميت، عالم جاهل، كل شيء لهم مقابل له مضاد إلا الله لا ند له، ولا مقابل له سبحانه -عز وجل-.

قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} من الذي رتب هذا؟ يا عبدة الأصنام يا عبدة الشمس والقمر يا عبدة النجوم والكواكب يا عبدة الذي يسمونه علم! من كوّن هذا؟ من رتّب هذا؟ ما أحد غيره فوحّدوه، وآمنوا به، وعظموه، و تهيأوا للقائه، {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وذكرى تذكرون، الحقيقة أمامكم.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} فرّوا إلى الله، تدعوكم دواعي لتقطعكم عنه وتعرضكم لعذابه {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} تفر من شيء يدوّر لك، يطلبك، يمشي ورائك، نفسك الأمارة، وشيطانك، شياطين الإنس والجن، الذنوب والمعاصي والسيئات، زخرف الحياة الدنيا ماذا تعمل فيها؟ قال: فرّ إلي وأنا أكفيك إياها، فرّ إلي بس.

كان سيدنا سهل يقول: ففروا إلى الله مما سِواه، ففروا مما سوى الله إلى الله، ففروا إلى الله، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} من أي شيء تفر؟ تفر من معصيته من غضبه من سخطه إليه فأنت تفر منه إليه سبحانك من خاف أحدا هرب منه، ومن خافك هرب إليك؛ لأنه ما يحصل غيرك أين يروح إذا يفزع منك؟ يجي لعندك، قل يا رب تبت إليك، وأما غيره إذا خفت منه تشرد تهرب، لكن هذا من أين تقدر تشرد؟! أين تروح؟! ماشي إلا ارجع إليه قل له: يا رب تبت.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} فمعنا أمر بالفرار إليه، فيا من عوقتك نفسك فرّ، ويا من عوقتك خطيئاتك تب وفرإليه يقيك شرها، ويحميك منها، ويا من عوقك الشيطان فرّ إلى الله، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ ….} [فصلت: 36] {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}.

هكذا أُمر نبيّنا أن يقول لنا {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} وما أحسن الفرار إليه في أيام فتح أبوابه وتوسعة عطائه مثل موسم رمضان فرّ إلى الله صم وقم فارًا إليه؛ يقيك كل ما يسوؤك وكل ما يضرك وكل ما يحجبك وكل ما يسبب لك العذاب سيكفيك فرّ إليه معتمد عليه، متذلل لعظمته، خاضع له، واثق بجوده.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أنا أنذر نذارة بينة من عند الله بأمر الله بإرسال الله إليّ باختصاص الله ليّ بختم النبوة {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فصلى الله عليك أيها النذير المبين و نسأل الله بك وبمحبته لك أن يرزقنا حسن الفرار إليه، وأن لا يسلط علينا قاطعًا ولا حاجبًا ولا ما يوقعنا في سخطه.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فهو الذي أهلك الأمم من قبل وهو الذي رفع السماء من فوقه وهو الذي مهّد الأرض لكم، ف {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ(51)} ولا تقصدوا بعملكم غيره، ولا لا بطاعاتكم وعباداتكم {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تأكيد من رب العالمين يقول للحبيب الأمين قل لهم إني لكم منه، منه، عنه، وبه، وبإرساله، واختصاصه لي، وما وهبني وتفضل به علي، وأمرني، أنا نذير منه لكم {مُّبِينٌ}؛ بَيّنُ النذارة أنا النذير العريان، قال لقوم قريش أول ما أمره الله أن يجهر بالدعوة وجمعهم فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن وراء هذا الجبل جيشًا يُقبل عليكم وكنتم مصدقيّ؟! قالوا: ما جربنا عليك كذب قط أي شيء تخبرنا نصدقك، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إن الله بعثني إليكم لتعبدوه وحده لا شريك له، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا، {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} صلى الله عليه وآله وسلم.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51)} يقول: ومع ما آتيناك من البيان في النذارة والبشارة والوضوح والأدلة القاطعة والحجج الدامغة لا تحزن إذا كذبوك، فهذه إرادتنا في عبادنا؛ لأننا نريد أن نملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، كذلك كما كذّبك هؤلاء وتقوّلوا عليك ونسبوا إليك ما أنت بريء منه، {كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ} الأمم كلها التي قبلهم وأرسلنا رسل فيهم {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أهل الأمم كلها السابقة قالوا: لأنبيائهم كذلك، لا إله إلا الله ساحر أو مجنون {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وطائفة بعد طائفة وهم يقولون نفس الكلام غريب!

{أَتَوَاصَوْا بِهِ} شي وصية بينهم البين أو اتفاق كل واحد يوصي الثاني الأولين للآخرين ومن بعدهم {أَتَوَاصَوْا بِهِ}؟! لا إله إلا الله لا ما أتواصوا لا ما التقوا ولا اجتمعوا في الظاهر، لكن دافعهم واحد طغيان في قلوبهم أثمر قولا واحدا، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} الدافع واحد أظهر قول واحد {كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ } [البقرة: 118] فلما كان عندهم هذا الطغيان ومجاوزة الحد في معرفة قدرهم وإقرارهم بالآيات الواضحة جاوزوا الحد واجترؤوا وافتروا وعاندوا فجاءوا بنفس القول ونفس الكلام، وبذا تجد المشابهة بين آل الشر من أوائلهم في القرون البعيدة الماضية والذين في قرننا وزماننا، وآل الخير كذلك مجمعون من آدم إلى نبينا محمد إلى كل مؤمن منا لا إله إلا الله مجمعون عليها قول واحد، والله خالق كل شيء وبيده ملكوت كل شيء وإليه مرجع كل شيء وإلى ربنا نرجع ونقف بين يديه هذا هو الكلام نفسه، آدم يقوله، وشيث من آدم يقوله، وأولاد شيث يقولونه، وإدريس يقوله وأولاد إدريس يقولونه، ومن بين إدريس ونوح يقولونه من المؤمنين ونوح يقوله، كلام واحد؛ لأنه حق، وهؤلاء يتشابهون في أقوالهم الباطلة.

{كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أعرض، {فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} ما عليك لوم قط ما قصرت في شيء، أديت الرسالة بلغت الأمانة نصحت جاهدت كابدت أديت ما عليك {فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} لا لوم عليك، لم تقصر، ولم تفرط، ولم تتأخر، ولم تتراخى، ولم تتباطأ، ولم تقصر في بذل نصيحة ولا بيان، {فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ}.

فزع الصحابة حتى قال سيدنا علي: ما كان أشق علينا من الآية لما نزلت {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} وتوقع الكثير أنه ما عاد با ينزل شيء من القرآن وأن الله قد عذر نبيه وما عاد إلا العذاب قد دنا، فأتبعها الله يقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فاطمئننَّا، أما لما قال له: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} حزنوا، حتى هو صلى الله عليه وسلم خاف على الأمة، فأتبعها الله بقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ} واصل تذكيرك لهم، فإنهم كل من سبقت له منَّا السعادة ينتفع بالذكرى، والمؤمنون على قدر إيمانهم ينتفعون بالذكرى، ولا يستغني عن الذكرى أحد ولو كان من المقربين ولو كان من الصديقين والعارفين يحتاج إلى الذكرى، كما لم يزل الحق يذكر أنبياءه وهم المعصومون سادات العارفين وأئمة المقربين وخيار الصديقين، ومع ذلك يذكرهم، افعلوا ولا تفعلوا، وراءكم كذا، أمامكم كذا، الحق يقول في تذكيره لنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6-7] {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وبذلك قال: قائلهم من لم تنفعه الذكرى فلينتبه من نفسه؛ لأنه معناه ما هو مؤمن إن كان مؤمن با ينتفع بالذكرى إن واحد يذّكر يذكر ما ينتفع هذا خطر {فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، فإذا لم تنفعه الذكرى معناه لا إيمان عنده لا حقيقة إيمان عنده، اللهم اجعلنا من المؤمنين، {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ}[الأعلى: 10-12] -والعياذ بالله تعالى- {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ}[غافر: 13] {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[الزمر:21] {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق:37] حاضر بقلبه، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.

وكل آية من آيات الله تعالى ذكرى، فالله ينفعنا بها، انفعنا بالقرآن وارفعنا بالقرآن، فإن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين، {فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ما معنى ذلك؟ أنَّ أعظم ما يتشرفون به عبادة الرب نعم، لكن ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، قال سيدنا علي: لآمرهم بعبادته هذا واضح، وقال بعض الصحابة: ليعرفون، وهذا وكلُ الجاهلين جهلوا عظمة ربهم سينتهي أيام غرورهم وزورهم وستنزع أرواحهم من أجسادهم ويعلمون ويعرفون أنه الحق، لا إله إلا الله، والأمر في حكمة الخلق ما قال في الآية الأخرى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًاۚ}[الملك:2]؛ لهذا يقول بعض أهل العلم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي: سعداء الجن والإنس إلا ليعبدون، الذين خلقهم للعبادة هم للعبادة، والذين خلقهم للشقاوة هم للشقاوة؛  ولهذا الحكمة ما ذُكِر في الآية الأخرى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ}[الملك: 2]، أما التوفيق للعبادة فمخصوص بأهل السعادة؛ لذا لما يشكك بعض المشككين يقول: لماذا خلق الله للناس؟ يقولون لهم مباشرة العامة يقولون لهم: للعبادة ولكن أكثرهم ما عبدوه؛ إذا ما تحقق مراده من الخلق، لم يكن ذلك مراده منهم لكن أمره لهم كلهم، أمرهم كلهم ووفق له من سبقت له السعادة وحرمه {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ } ليختبر الكل هذا حكمة الخلق، لا إله إلا الله وليتشرف بعبادته من يتشرف ومعرفته خاصة من يتشرف بذلك، ولتحق الكلمة على المعرضين والمدبرين والمعاندين والجاحدين والكافرين.

قال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} ما كلفت أحد منهم يرزق الآخرين، {وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} يعني يُطعِم، ما ألزمت أحد منهم يُطعِم بعضهم البعض، أنا الذي أرزقهم وأنا الذي أطعمهم {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} -جل جلاله وتعالى في علاه- {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} قالوا على معنى ما يقول لبعض عباده في القيامة استطعمتك فلم تطعمني، يقول: يا رب كيف أطعمك وأنت الله رب العالمين؟! يقول: استطعمك عبدي فلان فقير محتاج جاء إليك في الدنيا وأعرضت عنه، أما تدري أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ وكذلك {وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} يعني: ما فرضت عليهم أن يطعمون بعضهم البعض، أنا الذي أطعم الكل وأنا أرزق الكل {وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.

يقول: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} إذًا النهاية والغاية {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} بالكفر والتكذيب {ذَنُوبًا} نصيبًا سِجْلًا حظًا، {مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} الذين قبلهم كفرونا وتولوا، نصيبًا من العذاب وانقطاع الحجة، والوقوع في الندامة، قال كذلك الذين كذبوا بك.. نفعل بهم مثل الذين كذبوا بالأنبياء من قبلك {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} الذين كذبوا من قبلهم وكفروا من قبلهم {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ}.

ومع أن العذاب الذي يستأصل الأمة لا يكون فيهم رحمة من الله بأمة النبي محمّد صلى الله عليه وسلم؛ ولكن مع ذلك فما يُدَخر للعصاة والفساق والمكذبين به من العذاب في الآخرة أشد وأكبر وأعظم وهذا يقول: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي} يقول: العذاب قدامكم هناك، مهما يحصل لكم في الدنيا من تعب وحزن ومشاكل وهزيمة كل هذا يسير، وقتل العذاب قدامكم {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} كما قال تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[إبراهيم: 42].

{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} اليوم الذي وعدنا به الأولين والآخرين يوم جمع الأولين والآخرين، يوم الدين، يوم الجزاء، يوم القضاء، يوم المحاسبة، اللهم أدخلنا جنتك بغير حساب برحمتك يا أرحم الرحمن.

 يقول -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي "ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنًا ويديك رزقًا وإنْ لم تفعل ملأت صدرك فقرًا ويديك شغلًا"  شغل وفقر، شغل وفقر، ما قمت بحق عبادتي، قال: اعبدني وأنا أملأ صدرك غنًا ويديك مالاً رزقاً أعطيك رزقاً لا إله إلا الله.

وهكذا شأن من يصدق مع الرحمن، قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ }[الطلاق: 2-3] قالوا لذي النون المصري: من سبب توبتك واقبالك على القوي؟ قال: كنت يوماً تحت شجرة، وجيت أجلس تحتها وأرقد وإذا بقنبرة عمياء -طائر-، وهذه القنبرة عمياء في الشجرة جلست أتعجب عمياء من أين تأكل؟! وماشي في الشجرة ذي لها رزق! وبينما أنا جالس ما أدري إلا انشقت الأرض وخرجت سكرجتان في واحد حب وواحد ماء، وهي نزلت من فوق من الشجرة وقعت على الأرض وأكلت من هذا وشربت من هذا وطارت .. رجعت محلها وانطبقت الأرض ما عاد شئ، قلت: حسبي هذا يكفينا إذا ما نسي قنبرة عمياء في الشجرة ويسخر لها وقت ما تجوع وتضمى .. تسقط فوق الأرض، والأرض تنفتح لها وتأكل وتشرب من شان تمشي باقي عمرها، لا إله إلا الله لم ينس أحد -جل جلاله- {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} الأرزاق الحسية والمعنوية كلها من عنده.

يا من رزقت المقربين والصديقين معارفَ وعلومًا وأسرارًا وقربًا ويقينًا ومحبةً ورضوانًا وسع أرزاقنا يا خير الرازقين، يا ذا القوة المتين،وسع أرزاقنا في عافية وارزقنا صحة في تقوى وطول أعمار في حسن أعمال، وأرزاقا واسعة بلا عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب برحمتك يا أرحم الراحمين بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

تاريخ النشر الهجري

06 رَمضان 1444

تاريخ النشر الميلادي

27 مارس 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام