تفسير سورة الحجرات، من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ..}، الآية: 13

درس الفجر الرمضاني 1444هـ.jpeg
للاستماع إلى الدرس

الدرس الخامس عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحجرات، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله خالقنا المكوّن الظاهر الباطن، عالم ما نخفي وما نعلن، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، منه المبتدأ وإليه المرجع والمصير،  له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أرسل إلينا عبده المصطفى ختم به النبيين  وجعله سيد المرسلين، محمد بن عبد الله الأمين صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه ومن ولاهم واتبعهم بإحسان  إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

وبعد: فإنا في نعمة تأملنا لكلام ربنا وتلقينا لتوجيهاته وأوامره  وتعاليم وحيه الذي أوحاه إلى عبده محمد -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم-، وصلنا في أواخر سورة الحجرات إلى نداء الحق لجميع الناس على ظهر الأرض، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وَجهَ رب الناس النداء للناس على لسان سيد الناس محمد -صلى الله عليه وسلم- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم} فهل شاركنا في خلقكم أحد؟! {إِنَّا خَلَقْنَاكُم}، نحن الذين خلقناكم فما بالكم؟! ما بالكم تتركون منهجنًا وتأخذون منهج غيرنا؟! ما بالكم تخافون غيرنا ولا تخافوننا؟! ما بالكم ترجون غيرنا ولا ترجوننا؟! نحن الذين خلقناكم ليس لأحد الحق في التحليل والتحريم عليكم في مناهجكم وإقامتها إلا ربكم الذي خلق -جل جلاله- {إِنَّا خَلَقْنَاكُم}.

{إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ} ابتدأنا خلقكم بخلق آدم وحواء، وزوّجنا آدم بحواء فجاء، قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ….} [النساء:1] وهو نفس آدم -عليه السلام- {..وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا..} [النساء:1] وهي حواء -عليها السلام- {..وَبَثَّ مِنْهُمَا..} [النساء:1] الذكر والأنثى آدم وحواء. 

{إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ} من آدم وحواء -عليهما السلام- {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} تنتشرون في الأرض {وَقَبَائِلَ} وسط هذه الشعوب. فجَعَلْنَاكُمْ على هذا الترتيب شعوب وقبائل، ووسط القبائل بعد ذلك تأتي منكم الأجيال، وتأتي منكم الأفخاذ، وتأتي منكم العصبة وما إلى ذلك {لِتَعَارَفُوا} ليتهيأ لكم أن تعرفوا بعضكم البعض ومرجعكم، وفرضنا أمورًا تتعلق بالرحم وأولي الأرحام، وفرضنا أمورا تتعلق بالجوار، وفرضنا أمورا تتعلق بالقرابة، وفرضنا أمورا تتعلق بالاتفاق في الوطن الواحد والمحل الواحد والبلد الواحد، لكن كل هذا ليتم التعارف، وليتسنى لكل واحد القيام بواجبه ومهمته على وجه تام في محيطه ودائرته، وبذلك ينتشر بين الناس بأصنافهم القيام بالواجبات واستقرار الأمور وشؤونها، و عود خير بعضهم على بعض وكفهم عن الشر. 

{إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} لا لتتقاتلوا لا لتتفاخروا! فما من واحد آدمي على ظهر الأرض إلا ونهاية نسبه لآدم، وأنت مثله وذا مثله، {مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ} خلقناكم فمرجعكم إلى هذا، ما كانت من خصائص بعد ذلك بينكم، سواء خصائص في الخُلق، خصائص في شؤون المعاملة وما إلى ذلك، فليست مخولة لبعضكم أن يستعبد بعضا، ولا أن يستذل بعضا، ولا أن يحتقر بعضا، ولا أن يؤذي بعضا، ولا أن يضر بعضا، لتكون زيادة في التعارف بينكم، ومن خصصناه منا بخلق كريم أو صفات حسنة فليحمدنا عليها، وليُعرفْ له قدره بذلك، و"أَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا" يقول -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. 

يقول: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لله، فالكَرَمُ بالتقوى، من كان أتقى لله فهو الأكرم، والْأَتْقَى من جميع خلق الله لله عبده محمد -صلى الله عليه وسلم- ولهذا قال "وأنا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ والآخِرِينَ -على الله يوم القيامة-،  ولا فَخْرَ" بعد ذلك كل من كان أتقى فهو الأكرم، وحينئذ يوقفنا القرآن العزيز كالسنة الغراء على ذلك المسلك القويم والصراط المستقيم والمسار المعتدل، لا إنكار لشرف الأنساب إلى صلاح أو تقوى أو إلى نبوة أو إلى صحبة أو إلى هجرة  أو إلى عرب أو من عرب إلى قريش أو قريش إلى بني هاشم مثلا، لا إنكار لشيء من الفضل مقرونًا بالتقوى، من خرج عن التقوى وعندنا أبو لهب عم الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وأخو أبيه، كفر وأدبر وأذنب فما هو إلا حطب جهنم، {سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] كما قال الله -جل جلاله وتعالى في علاه-، ولكن مع التقوى نجد في القرآن الكريم {...قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ…} [الشورى:23]، ونجد في القرآن الكريم {...إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، ثم نجد في القرآن الكريم يذكر شأن الصحبة له {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ…} [التوبة:100]، ويثبت لهم قدم في الأسبقية، ويفرض على من بعدهم أن ينظروا إلى سيرهم ومسارهم، ويسلكوا عليه، قال: {…وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ…} [التوبة:100]، كل ذلك لا يُبيح لأحد أن يتكبر على آخر، ولا أن يفتخر، ولا أن يستحل ما حرم الله تعالى، ولا أن يخرج عن التقوى.

  بهذا الميزان المعتدل جاء قانون التعايش الذي أنزله الله بين بني آدم على ظهر الأرض، بين هؤلاء البشر كلهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، ولذا قال سيدنا عمر عندما ولّى عمرو بن العاص على مصر قال له: اتق الله فيهم، واحكم بينهم بالعدل، وإنما هما أحد اثنين، إما أخوك في الدين أو قرينك في الخلْق. إما أخوك في الدين: يعني المسلمين، أو قرينك في الخلق مثلك في الخلق آدمي مثلك، وأكثر الناس في مصر كانوا غير مسلمين، في عهد سيدنا عمر بعدما دخل الإسلام إلى القرن الثاني والثالث غير المسلمين كانوا أكثر، وكان الحكم للإسلام والمسلمين، وما وجد سكان مصر من النصارى وغيرهم إنصافًا وإعطاءًا للحقوق، واحترامًا للإنسانية كما وجدوا في الإسلام، وكانوا قبل الإسلام على اضطهادٍ وعلى ظلمٍ وعلى إيذاء لهم وانتهاك للحرمات من عدة عدد من الطوائف، ولمَّا جاء حكم الإسلام جاء بهذه الصورة العجيبة البديعة.

حتى أنَّ ولدَ عمرو بن العاص تسابق مع ابن واحد من النصارى -من الأقباط-، فسبقه ابن القبطي فغضب هذا ولطمه، وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين، فما كان إلا وقد تأثر القبطي وأبوه وأسرته، إلا أن يرحل الأب بابنه إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ويقول: حصل كذا وكذا، ويتأكد سيدنا عمر من الحادثة، وما الذي وقع؟ ويكتب الكتاب، إلى الأمير في مصر يقول: إذا وصلك كتابي هذا فتعال إليّ، اشخص إليّ مع ابنك فلان، فلما وصل الكتاب دعا الأمير ابنه قال: تعال يا ابني ماذا فعلت؟! ماذا عملت؟! هذا أميرالمؤمنين يستدعيني ويحضِّرك معي، ما الذي جرى منك؟! قال: ما جرى مني شيء -ما بيستدعيه الأمير ولا شيء إلا في شيء- ذكر له القصة مع ابن القبطي. وصل إلى المدينة، والقبطي هناك وابنه، لما وصلوا كان هناك جمع من الصحابة، دعا سيدنا عمر القبطي وقال له: هذا الذي ضرب ابنك ولطمه؟ وقال: أنا ابن الأكرمين، قل لابنك يقوم يلطمه ويقول: خذها يا ابن الأكرمين، ومُرّ بالسيف فوق رأس عمرو، قال عمرو: ما دخلي أنا يا أمير المؤمنين، أنا ما أمرت به؟ قال: إن ابنك لم يفعل ذلك إلا مستندا إلى إمارتك، لو لم يشعر أنَّه وراءه إمارة تحميه ما بيتصرف هكذا، ما ربيت ابنك أنت، فمروا بالسيف فوق رأسه، رضيت يا قبطي؟ أخذت حقك، يقول سيدنا عمر لعمرو: متى استَعْبدتُم الناس وقد ولَدَتهم أُمَّهاتهم أحرارًا؟! الله أكبر.

  إذًا جاءت الشريعة بقانون هذا التعايش بين العباد، لا ضرر ولا إضرار، يقول سبحانه وتعالى: {...وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ…} [الحديد:25] الناس ليسوا المسلمون وحدهم، مناهج الله  التي تنزل الأرض رحمة للعالمين كلهم، رحمة للأمم ولو كفروا ولو أدبروا، لن يجدوا أحسن من نظام الرَبّ، ولن يجدوا خيرًا لهم من قانون الإله، أعلم بمصالحهم أعلم بفوائدهم، أعلم بخير أجسامهم وأرواحهم وعقولهم ومجتمعاتهم ودنياهم وآخرتهم، هو خالق الكل {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ..} [الملك:14]  وهل من الممكن لعقل بشر مخلوق أن يدرك من حقائق الخلق فوق ما يعلم الخالق؟ كيف يأتي هذا؟  كيف يدخل في العقل هذا؟  الخالق أعلم بعباده -جل جلاله- لهذا يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..} [الحديد:25]. 

إن كان من على ظهر الأرض يريدون القسط، يريدون العدل، يريدون حفظ حقوق الإنسان وكرامته، والحيوان والنبات والجماد فمنهج خالق الكل هو الذي يحقق ذلك لا سواه، ما سواه زمجرة وكلام ودعاوي، والواقع شيء آخر، ولذا قال سيدنا ربعي بن عامر: الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رَبَّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، يعني كل الأديان غير الإسلام جور وسطها -فيها جور تحيف على البعض-  تأخذ حقوق البعض، تذل البعض إلا الإسلام، إذا أقيم على وجهه ينصف كل ذي حق، وهكذا  يرى سيدنا عمر -عليه رضوان الله-  شايب  من أهل الذمة  نصراني قاعد يسأل، سأله: لما تسأل؟ قال: كبرت وضعفت عن العمل، وعليّ جزية أسلمها لكم من أجل الجزية، قال: ماكان لنا أن نأخذ منك الجزية في شبابك حتى إذا شبت، اجلس في مكانك وكفايتك من عندنا من بيت المال، ولا جزية عليك إذا عجزت، فقير وعجز ما يقدر يشتغل، هذا الذي فَهِمُوه من منهج سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، قال: خلاص أنت وفيت بالعهد في خلال هذه السنين وأمضيت شبابك تسلم الجزية للمسلمين، اليوم أمنك علينا وحراستك علينا وأنت معفو عن هذه الجزية، ما نُكلفك إلى حد السؤال، ولكن إذا وجدتها باليسرِ فسلم الجزية، وإلا فأنت معفو، اليوم نحن نكفيك، إحسان عجيب وبديع في هذا التعايش.

الدول المتقدمة إلى اليوم عندها اشكالات الأبيض والأسود، مشكلتهم غير محلولة وإن ادّعوا، فالواقع ينقضها ويكذبها؛ لكن دعوة سيدنا محمد من أول يوم لا يوجد مشكلة أبيض وأسود هذه -أحمر وأصفر- فالناس كلهم سواء، من أول يوم، أوائل السابقين للإسلام بيض وسود، وموالي وأحرار سواء، كلهم تحت دائرة المصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم- إخوان.

سيدنا عمر يقول على سيدنا بلال قد أعتقه سيدنا أبو بكر، كان يعذبه أمية بن خلف فاشتراه منه وأعتقه، يقول: أبو بكر سيدُنا، أعتقَ سيدَنا، يقصد سيدنا بلال -عليه الرضوان-، هكذا.. فلما عيّر مرة أبو ذر سيدنا بلال -تخاصم الاثنان- فقال: يا ابن السوداء، بلغ الخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فتأثر ولقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر أعيرته بأمه؟! وهل لابن البيضاء فضل على ابن السوداء إلا بتقوى الله؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، قال الفكرة هذه فكرة الجاهلية، والعنصرية والعصبية هذه حق الجاهلية، ما هي حق الإسلام، إنك امرؤ فيك جاهلية! بسرعة راح سيدنا أبو ذر يبحث عن سيدنا بلال، حتى قال: تعال أنا اضطجع الأرض ضع قدمك ورجلك على خدي هذا؛ حتى تذهب عني نخوة الجاهلية، قال بلال: لا لا استغفر الله أضع قدمي فوق وجه مسلم، قال: لا.. حتى تضربني، قال: لا لا أسامحك تعال نتعانق أنا وإياك ونسامح ونصافح، ما هناك منهج خير من هذا المنهج! ولا قانون ولا نظام يحكم التعايش بين بني الإنسان كنظام خالق الإنسان -جل جلاله وتعالى في علاه-. وعلى هذا الوسط وهذا الاعتدال يقول: {..إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} قال مرة لسيدنا أبي ذر جماعة من الناس، قال: انظر كيف رأيت ألوان هذه الوجوه؟ قال: يا رسول الله فيهم الأسود والأبيض والأحمر، قال: أما إنه لا فضل لك على أحد منهم إلا بتقوى الله..الله أكبر.

وهكذا جاءت الآيات العظيمات مع ما ذكرنا من هذا الاعتدال والضوابط، يقول الحق تعالى لنساء النبي {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ….} [الأحزاب:32] إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، لكُنّ شرف القرب من محمد حتى توّجهن الرب بتاج الأمومة لأهل الإيمان، فتصير بقربها من النبي محمد -وعقده عليها- أُمًّا لمن آمن بالله إلى أن تقوم الساعة، يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ..} [الأحزاب:6] انظر الاعتدال كيف يقول لهن {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:30-31] وبذلك لا يمكن أن يكون الأتقى لا أحد من أهل نسب شريف  يحتقر مسلم، أو يتفاخر عليه أو يذله، ولا أحد ممن لا نسب له ينكر فضل النسب لا يكون أتقى، ما هو تقي،  الأتقى الذي عرفَ أمر الله وأقامه على وجهه، - هذا ما هو ضعف- هذا هو الأتقى، والأتقى هو الأكرم عند الله، يكون عربي، يكون عجمي، يكون صغير، يكون كبير يكون أسود، أبيض، أحمر، أصفر من حيث ما كان،  إذا اتَّقى الله فهو الأكرم عند الله -جل جلاله-. وهكذا جاء في رواية عن بعض الصحابة يقول: أن أحدهم رأى أنه دخل الجنة وإذا واحد مملوك له، له درجة فوقه مثل الكوكب الدري يراه فوق، يقول: لمن هذه الدرجة؟ قالوا: هذه لفلان ابن فلان، قال: يا رب هذا مملوكي! هذا مملوك عندي، قال: فقيل: إنما جزي بعمله، عمله أحسن من عملك، هو فوق؛ وهكذا.

إذًا هناك ضوابط ووسطية واعتدال من مجموع آي القرآن، وبلاغ المصطفى في السنة تُعلم، والأتقى يقيمها في مقامها، ولا يحتقر أحدا، فمن احتقر أحدا سواء بنسب أو بمال أو بسلطان أو بصورة عبادة -يقول أنه أعبد-، نقول بأنك عصيت الله تبارك وتعالى بمعصية قلبية، واحتقارك لأي مسلم، واحتقار المسلم شر كاف لصاحبه،  بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. لا سبيل إلى احتقار أحد، ولا سبيل إلى الكبر على أحد، ولا سبيل إلى الحط أيضا من قدر نسب الأنبياء، ونسب الأصفياء ونسب الأولياء ونسب الصحابة، ونسب من سبق إلى الإسلام، ومن سبق إلى الهجرة إلى غير ذلك من الاعتبارات، التي ما شي منها ما يتعدى حدود التقوى ولا شيء منها يخرج إلى ظلم أحد، أو الاحتقار لأحد، أو النيل من أحد، ليس فيها شيء من ذلك، على ذلك مضى الأنبياء وعلموا أتباعهم -صلوات الله وسلامه عليهم-. 

     يقول -جلَّ جلاله-: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ..}  بأحوالكم، وأقوالكم وأفعالكم،  ومقاصدكم ونواياكم..  فيجزيكم {خَبِيرٌ (13)} بسرائركم وضمائركم؛ فيُجازيكم بها؛ لهذا يُحَذِّر -صلى الله عليه وسلم- أهل بيته، قال: (لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم)، مع ما ذكر من فضائلهم وقربهم منه؛ نصحهم، وبلّغهم، وأكَّدَ عليهم في الأمر؛ حتى نادى أحبهم إليه وأقربهم منه، البضعة منه.. فاطمة الزهراء، ويقول: (يا فاطمة اعملي لا أغني عنك من الله شيئا). ويضرب بها المثل لمَّا كلّموه في شأن السرقة وقالوا: إن هذا من الأشراف ومعروف بين الناس، فغضب -صلى الله عليه وسلم- وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، أما والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها) -وحاشاها عليها الرضوان-؛ ومع ذلك فهو الذي يُخبِر أنها سيدة نساء أهل الجنة، وأنها سيدة نساء العالمين، وأنها بضعة منه، يقبضه ما يقبضها، ويبسطه ما يبسطها -صلى الله عليه وآله وسلم-.

     فلا سبيل إلى أخذ نًصٍّ وترك نص، ولا سبيل إلى الغلوِّّ مع شيء من النصوص على حساب النصوص الأخرى. ولابد من الجمع بينها. وهذا هو مسلك أهل السنة.. جاءوا عندنا بأصل نزول الوحي وبعده..، أمنَّ الناس في بذل الماء -والمنة لله ولرسوله-  وصاحبه في الغار.. يروي لنا الإمام البخاري عنه -عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه-: "لقرابة رسول الله أحب إليّ أن أصل من قرابتي"، وأنه يقول للناس: "ارقبوا محمدا في آل بيته"، هذا مسلك أهل السنة وهذا مسلك الاعتدال. وكذلك جاء من جاء إلى عند سيدنا جعفر الصادق؛ وأرادوا أن ينال من أبي بكر وعمر،  قال: أنا برئ ممن بَرِئ من أبي بكر وعمر! ولَدَنا الصديق مرتين -أمه تَنتَسِب لسيدنا أبي بكر، أم أمه تنتسب لسيدنا أبي بكر-  قال: ولدنا الصديق مرتين، -أنا ولد الصديق عليهم الرضوان-. 

بهذا المسلك القويم مضى أهل السنة، ولا يضربون ذا بذا ولا ذا بذا، ولا يُلَطِّخون بواطنهم ببغض مسلمٍ -من عوامِّ المسلمين، فضلا عن خواصهم، فضلا عن الصحابة،  فضلا عن آل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم- والذين هم أقرب إليه جناب، أقرب جناب إلى رسول الله في الأمة: أصحابه وأهل بيته، هؤلاء أقرب الأمة إليه، فلا يمكن أن يؤذى في أصحابه ولا يؤذى في أهل بيته خاصة ولا يؤذى في عموم أمته.

      كما تقدم معنا الآيات التي أشارت إلى الأدب معه، ثم إلى الأدب مع أمته {..إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ..} و: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ يَخُدُّنْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخْوَيْكُمْ}. يقول: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا..} دعوة من الله لنا للتَّحَقُّق بحقائق الإيمان. ونعلم أن الحكمة اقتضت أن كثيرا ينتمون إلى الإيمان غير متحقِّقين بحقائق الإيمان، ومنهم من يُظهِر الإيمان بلسانه -وما خلا من هذا حتى المجتمع النبوي المدني، فيهم الذين يظهرون الإسلام، وفيهم وفيهم.. ومن ذلك طوائف من الأعراب  ذكرهم الحق في هذه الآية: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا..}  من جملتهم طائفة من بني أسد، وقع عندهم قحط فجاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام، وما قصدهم إسلام ولا اتباع، يريدون أن يأكلوا.. تعبوا في بلادهم ولم يعد عندهم أكل، وحتى جاءوا إلى المدينة  أفسدوا فيها الطُّرُق بالقاذورات حقهم، وغلوا الأسعار وصبروا عليهم الصحابة! ويأتون إلى عند النبي محمد يقولون: الناس جاءوا لك بأنفسهم ونحن جئنا لك بذريّتنا وأولادنا، ويقولون: من غير قتال نحن جئنا إليك.. ويمنّون على النبي صلى الله عليه وسلم! اعطنا واعطنا..! يطلبون {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا..} وأعراب آخرين كانوا في أماكنهم أو في قراهم أوديتهم، رأوا ظهور الإسلام وانتشاره فخافوا على أنفسهم وأموالهم  فأظهروا الإسلام؛ ليأمنوا على أموالهم وأنفسهم فقط.. وما في قلوبهم إيمان، فنزل فيهم هذا: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا..} يعني صدَّقنا، -ومهما كان أمر غيب- لا يعلمه إلا الله،  قال الله لنبيه: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..}  استسلمنا للظاهر  خضعنا لترتيبكم وحكمكم نعم.. أما إيمان لا يوجد. 

{قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..} أي: إلى الآن لم يدخل الإيمان في قلوبكم، إلا أن التعبير أيضاً بـ (لَمَّا)  يدل على انتظار دخوله وتوقع دخوله. {وَلَمَّا يَدْخُلِ}  يعني إلى الآن ما تركه لكنه في انتظار، -يمكن يجيء- سيصل إلى القلوب بعد ذلك، وكثير منهم كانوا بهذا الصورة ثم تحولوا إلى الإيمان وآمنوا. {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..} إلا أنه (لمَّا) هذه يُعَبِّرون بها عن شيء متوقَّع، أما شيء ميؤوس منه ما يقولون فيه: (لمَّا) لم -فقط-.. فإذا مثلاً ذهب واحد وغرق في البحر يقول: ذهب فلان ولم يعد؛ لكن إذا واحد منتظرينه بيرجع ما رجع يقول: لمَّا يَعُدْ،  يعني: نحن في انتظار عودته بعد قليل، يعني إلى وقت التكلم ما عاد. (لمَّا) هذه إذا جاءت للنفي تفيد أمرين اثنين: استمرار النفي إلى وقت التحدث، وتوقع حدوثه فيما بعد. بخلاف (لم) ما تفيد بشيء من هذه الأمرين. ممكن واحد راح ورجع.. عاد بعد مدة، يقول: ذهب فلان ولم يعد إلا بعد ما أتعبنا، هو قد عاد هو .. وقت التكلم قد عاد، لكن لو قلنا: لمَّا يعد : يعني إلى الآن لم يعد. {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..} يعني إلى اللحظة هذه الإيمان لم يستقر في قلوبكم، عاد ما شي إيمان في قلوبكم، ولكن منتظر يدخل الإيمان في قلوبهم، والحمد لله الكثير منهم دخل الإيمان في قلوبهم وصدقوا مع الله ورسوله. ولكن هكذا يبتلي الله العباد، والأمر لله من قبل ومن بعد، فيَا فوز الصادقين والمخلصين الموقنين. 

وإلا ما تخلوا مجتمعات الخير وأماكن الخير من وجود قلوب غير صادقة،  قلوب غير مخلصة.. يوجد!.  ويا مقلب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك، والأمر لك، لا إله إلا أنت، وما أُمِرَ الأنبياء التفتيش عن قلوب الناس.  ولو علّمهم -سبحانه وتعالى- لا يأذن لهم بإظهار ذلك؛ إلا ما يَظهَر من طريق واضح ظاهر. يقول: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]. يقول لنبيه، وعلّمه، ولم يُفضِ بهذا السِّرِّ المسيمات ولا سيماء المنافقين وعددهم إلا لواحد:  سيدنا حذيفة بن اليمان فقط، ما تحدث بهذا العلم مع سيدنا أبو بكر ولا سيدنا عمر ولا غيرهم، حدَّث به لسيدنا حذيفة بن اليمان؛ لحكمة، واستودعه هذه الأمانة والسر،  حذيفة وحده.. أمين سرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنافقين، وما تحدَّث. صلى الله عليه وعليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهكذا..

بل ولمَّا تكلَّم عبدالله بن أبي وقال إذا رجعنا الآن للمدينة بنخرج الأعز الأذل،  يقصد نفسه هو الأعز ويقصد رسول الله والجماعة الأذلين  -وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله هو الأعز- ، فسمعه واحد من الصحابة وتأثر وراح يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، فاستدعاه، قال: أنا أقول هذا؟!  يكذب عليك، والله العظيم.. ويحلف والثاني يحلف، ويحلفون أيْمان، حتى ذاك فَزِع على نفسه قال رسول الله بيصدقهم الآن وأنا بأطلع كذَّاب! ونزلت الآية: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:7-8].

جاء سيدنا عمر قال: يا رسول الله! يتكلم بالكلام هذا ويمشي معنا، اضرب عنقه!  قال له: لا، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! ولده كان معهم في الغزوة وكان مؤمن: عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ، ولمَّا تَحَقَّق من وحيّ الله أنَّ أبوه قال هذا الكلام ويحلف ما قاله وسَلِم! انتظره هناك، تقَدَّم عند مدخل المدينة وانتظر لمَّا يصل أبوه وقال: قف! ، ما لك؟ قال: والله لا تدخلها  حتى يأذن رسول الله! رسول الله الأعز وأنت الأذل! قال: ابني يمنعني! قال : اجلس مكانك! فبعث إلى النبي قال: ولدي يمنعني الدخول! فبعث إليه النبي قال دعه يدخل، قال: الآن وقد أَذِن رسول الله طأطئ رأسك وأدخل تحت السيف! وطِّ راسك! لقوة إيمان الولد هذا.. محبة الله ورسوله خلَّاه يُطأطئ راسه ويدخل..! قال له رسول الله الأعز وأنت الأذل.  صلى الله على سيدنا محمد..  والحق يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]. اللهم اجعلنا منهم.

    {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..} اغنموا الفرصة أحسن لكم، أمامكم تجارة رابحة، {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَألِتْكُم..} وفي قراءة: {لَا يَلِتْكُم}،  يلتكم ويألتكم  يعني: يُنقِصكم ويُفَوِّت عليكم ويضيّع شيء..  ما يضيّع عليكم شيء. {لَا يَألِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}  كل شيء بحسابه، مهما بذلتم من أجل الله ورسوله، من قول طيب أو فعل طيب أو مال أو حال أو نفس أو مساهمة في خير: محسوبة ومكتوبة ومحفوظة ومجزيّون عليها.

{وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَألِتْكُم} وفي قراءة: {لَا يَلِتْكُم} {مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} ما ينقص عليكم شيء ولا يضيع عليكم شيء  بل تجدونه كامل عند الله {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14}. وخذوا علامة المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)}. اللهم ألحقنا بهم، وأدخلنا فيهم، واجعلنا منهم يا أرحم الراحمين. وهؤلاء أعلى المؤمنين  في الرُّتَب، حتى جاءنا في الحديث عند الإمام أحمد بن حنبل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول وغيره من الأئمة -أئمة الحديث- يقول -صلى الله عليه وسلم-: (المؤمنون ثلاثة  - يعني في الرتب- الأول: مَن آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم  في سبيل الله) هؤلاء أعلاهم..  لا ريب ولا شك .. باذلين أنفسهم وأموالهم في سبيل الله -تبارك وتعالى- هذا خيار المؤمنين. 

قال -صلى الله عليه وسلم-: (ثم من أَمِنه الناس على دمائهم  وأموالهم وأعراضهم) مؤمن ما وصل لهذه الدرجة ولكنه  في رتبة ما يخون ولا يغش ولا يخدع  أحد، مأمون على الأموال والأعراض والأنفس؛ هؤلاء رتبة من المؤمنين  تحت هؤلاء. والثالث؟  قال: (والثالث إذا نازله الطمع وقف خشية من الله)  يجي له الطمع  لكن يتوقّف ويترك الطمع خشية من الله -تعالى-. فهؤلاء أصناف المؤمنين ثلاثة، غيرهم ما عاد شي إيمان وراء هذا.. لا إله إلا الله .. اللهم ارزقنا كمال الإيمان وزدنا إيمانا.

      {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)}. اجعلنا منهم. قال ربي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].  {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ..} أنتم بتعطون الله خبر أنكم مؤمنين وهو أعلم -سبحانه وتعالى-!

      {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)}،  {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا..} قالوا نحن جئنا من دون قتال، نحن…! {قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم..}  لا مِنَّة لكم  في هذا {..بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17)}، إذا صدقتكم فالمِنَّة لله؛ أنقذكم بي من كفر، ومن شرك، ومن نار، ومن غضب، ومن بُعْد، ومن سخَط، ومن حِجَاب، ومن عذاب!  إلى جنة!  الفضل لله ولرسوله..ما هو لكم!.  فهذا رد عليهم الحق -تعالى- وانظر إلى الأنصار الصادقين المخلصين؛ بعد فتح مكة  لمَّا وزَّع -صلى الله عليه وسلم- الغنائم -وأكثرها في المؤلفة قلوبهم وفيمن أسلم قريبا- بعض شباب الأنصار هزّه الموقف قال رسول الله أدركته الرِّقَّة والرحمة على أهله وجماعته!  يُعطيهم الغنائم وأن سيوفنا تقطر  من دمائهم! ونحن الذين نصرناه..؟! وبلَغ النبي أنه حصل هذا الكلام، فجمع الأنصار وأمرهم في خيمة يجتمعوا.. واجتمعوا، وخرج إليهم، معه عمه العباس، وما في الخيمة إلا الأنصار، قال: ما مقالة بلغتني عنكم  معشر الأنصار؟! سكتوا! ثاني مرة ثالث مرة.. قال كبارهم: يا رسول الله، أمَّا شيوخنا عقلاؤنا فلم يقولوا شيء، وأما بعض شبابنا مِنْ سُفاهئنا قد قالوا الذي بلغك. قال: يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضُلَّالاً فهداكم الله بي؟ ألم آتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ ألم آتكم مخذولين فنصركم الله بي؟!  قالوا: بلى، المَنُّ لله ولرسوله!  قال: أجيبوا؟ قالوا: بِمَ نُجيب؟ قال: شئتم لقلتم فصدَقتم وصُدِّقتم! جئتنا وحيدًا فآويناك، وجئتنا مخذولًا فنصرناك! قالوا: لا، المَنُّ لله ولرسوله! المَنُّ لك؛ لربنا -سبحانه وتعالى- لكن ما هو لنا؛ فالله  تفضَّل علينا بك، وأنت لك الشرف بإنقاذنا وإخراجنا  من الشرك والكفر والظلم والظلمة إلى هذا الدين وإلى هذا الخير، وإلى الرابطة بالله، وإلى الاستعداد للقاء الله، المَنُّ لك يا رسول الله، المَنُّ لربك  الذي أرسلك إلينا..! شفت الفرق بين ذا؟ وذولاك يمنُّون! قال لهم: {قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم} وهذا النبي قال قولوا كذا قالوا لا ما نقول كذا! المَنُّ لله ولرسوله!

قال: (يا معشر الأنصار، أحزنتم على لُعاعَةٍ من الدنيا تألَّفتُ بها قلوب أقوام! وتركتكم لِمَا أعلم من إيمانكم وصدقكم، ولولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار، ولو سلَكَ الناس شِعْبَا وسلَكت الأنصار شِعْبَاً لسلكتُ شِعبَ الأنصار! قال: يا معشر الأنصار، أمَا ترضون أن يعود الناس ويرجع الناس بالشاة والبعير إلى ديارهم، وترجعون أنتم برسول الله إلى دياركم تحوزونه إليكم! فوالله لمَا تنقلبون به خيرا مما ينقلبون به)! بكوا! وقال: (اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فاخضلّت لحاهم من الدموع! وقالوا: رضينا برسول الله قِسْمَا! قال: معشر الأنصار، إنكم ستلقون أثرة بعدي، فاصبروا..) لمَّا بتجي الإمارات والوظائف من بعدي ما بتجي عندكم، وإن كنتم خلقين بها، لكن ما بتجي حواليكم (..فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فإني منتظركم عليه) أنا منتظركم هناك على الحوض؛ لنلتقي في حياة الأبد والبقاء..

وكان إكماله لتزكية سادتنا الأنصار، وانتزاع  كل الشوائب من بواطنهم -عليهم الرضوان-  وأدَّى رسول الله الأمانة ووفى الأنصار من بعده، وقاتلوا في عهد الخلفاء الراشدين وتحت إمارات أكثرها لغير الأنصار.. أو كلها لغير الأنصار. وهم الجند الثابتون الباذلون الصادقون المُجِدُّون المجتهدون، هم ثبتوا حتى لقوا ربهم… والله يجمعنا بهم وبه، يجمعنا بهم معه إن شاء الله.

 قال: {..بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} وفي قراءة: {بِمَا يَعْمَلُونَ} لا إله إلا هو.. أصلح أعمالنا، ونور بصائرنا، وصَفِّ سرائرنا..

     وبارك لنا في رمضاننا الذي انتصف علينا، ولم يبق إلا نصفه الأخير، فاجعل لنا فيه من التنوير والتبشير والخير الكثير؛ ما نرقى به  إلى المقام الخضير ، برحمتك يا أرحم الرحمين.

     لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى  أحد من خلقك طرفة عين، وحَلِّنا بكل زَيْن، وخَلِّنا عن كل شين. وافتح لنا والأمة فيما بقي من هذا الشهر في صلاح القلوب، وفي الجمع عليك، وفي دفع المصائب والبلايا والآفات، والحفظ من العاهات والمحن، ما ظهر منها وما بطن،  وفي تحويل الأحوال إلى أحسنها.

     أغث أمة حبيبك محمد، يا مُنزِل القرآن أَغِث أمة من أنزلت عليه القرآن، تدارك أمة من أنزلتَ عليه القرآن، خَلِّص أمة مَن أنزلتَ عليه القرآن، جَمِّل أحوال أمة مَن أنزلتَ عليه القرآن، اللهم حوِّل أحوالهم إلى أحسن الأحوال، إليك نشكو ما حلَّ بهم  وما نازلهم في الظاهر والباطن، ونِعمَ المرتجى أنت، ونِعمَ المشتكى إليك وحدك، اللهم أغثنا وإياهم، فإنا بك نستغيث.. يا حيُّ يا قيوم.

اللهم إنها أياما مرَّت على نبيك في العام الثاني من الهجرة، قبل ألف وأربعمائة واثنتين وأربعٍ من السنوات، وهو في مثل هذه الأيام قريبا من موقعة بدر ومحل بدر، ونصرته بنصرك فيه يوم الفرقان {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران:166] ونحن يا ربِّ من أُمَّتِهِ آمنا به، وصدَّقنا أنه مبعوثك بالحق، وصفوتك من الأنبياء، وآمنَّا بكل ما قاله وما جاء به، ونغبط أصحابه الذين كانوا معه في تلك الغزوة، ومَن شرَّفتهم وكرَّمتهم، ونسألك اللهم به وبهم: أن تُفَرِّج عَنَّا، أن تكشف الشدائد عنَّا، ترفع البلاء عنَّا، أن تُصلِح شأننا وشؤون أمة حبيبك أجمعين، أن تحوِّل الأحوال إلى أحسنها.

ونقول: يا حيُّ يا قيوم أغثنا فإنَّا برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير، فأصلح شؤوننا بما صلحت به شؤون الصالحين، وأَرِنَا راية هذا النبي منشورة في شرق الأرض وغربها، واجعلنا من أنصارها، والقائمين بحقِّها على الوجه الأحب إليك والأرضى لك.. برحمتك يا أرحم الراحمين.

 بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه 

الفاتحة 



 

تاريخ النشر الهجري

16 رَمضان 1444

تاريخ النشر الميلادي

06 أبريل 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام