(536)
(228)
(574)
(311)
الدرس الرابع عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحجرات، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
الحمد لله الذي أكرمنا بالغدوة في سبيله، والاستماع إلى وحيه وتنزيله، والاهتداء بهدي عبده وحبيبه ورسوله. اقبلنا على ما فينا، وجُدْ علينا بما أنت أهله يا عُدَّتَنا يا عُمْدَتَنا في كل شأن، ولاحظنا بعين عنايتك في جميع شؤوننا في السر والإعلان، وصلِّ وسلِّم في كل لمحةٍ ونفسٍ وآن على من أنزلت عليه القرآن، سيد الأكوان عبدك المصطفى محمد بن عبد الله، المصطفى من عدنان، وعلى آله المطهرين عن الأدران، وصحبه الغرِّ الأعيان، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ من رفعت لهم القدر والشأن، وأعليتَ لهم المنزلة والمكان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ: فإننا في نعمة تأملنا لكلامِ ربنا -جل جلاله- واستماعنا لخطابه وتعليمه -سبحانه وتعالى-، وصلنا في سورةِ الحجرات إلى ندائهِ إيَّانا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ…}، فإن الخيرَ من هو خيرٌ عند الله، ولا يدل على ذلك مظهرٌ ولا منظرٌ ولا صورةٌ ولا شيء من الأحاسيس عند الناس، وذلك غيبٌ، إنما أبدى الله -سبحانه وتعالى- لنا وأبرز تفضيلهُ للأنبياء وللمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم- على من عداهم، وقال {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ…} [البقرة:253]؛ وميَّزَ أولي العزم، وقدَّمَ خاتم الرسل على الكل -صلى الله عليه وعليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وبعد ذلك لا يُدرى من هو الخير عند الله من بين أجناس الناس، فإن لله حكمًا وقضاءًا وقدرًا وترتيبًا محكمًا، يرفعُ بهِ هذا ويخفض، ويقرِّب ويبعد، ويشقي ويسعد، وقد حكمَ وحتمَ بالخواتيم لكلِّ من أشقىٰ ولكل من أسعد، فلا تدري ما الخاتمة لك، ولا لمن سواك، ومن الذي قرب، ومن الذي أبعد، فالله يقربنا إليه زلفى ويرزقنا الأدب في الظاهر والخفاء.
حرَّمَ السخرية، وقد استشهدنا بقول سيدنا موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} لما قال له قومُه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:67] فلا يستهزئ بالناس إلا الجاهلون، عديمي العقل، عديموا العقل والعياذ بالله -تبارك وتعالى-. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ…} ، وكان من جملة ذلك ما سخَّرَ بعضُ الوافدين عليه صلى الله عليه وسلم من مثل الذين نادوه من وراء الحجرات، من فقراء أصحابه كعمار وبلال، واستهانوا بهم على رثاثة هيئتهم، وضعف منظرهم، فقال تعالى {... لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ…} أرفع درجةً عند الله، وأعظم منزلة لدى الحق -جل جلاله- وتعالى في علاه، وبينَ لنا صلى الله عليه وسلم هذا الأدب وواجبَ الوقوف عندما غيَّبَهُ علينا الرب.
ومرَّ رجلٌ مِمّن له مظهر وله وجاهة وله كلمة، فلما مرّ قال صلى الله عليه وسلم وقد مرَّ الرجل ومعه خدمه ومعه حشمه: ما ترون في هذا الرجل؟ وما تقولون؟ قالوا: هذا رجل عزيز في قومه، رفيع جدير إن قال يسمع لقوله، وإن خطب أن ينكح، وإن طلب أن يعطى، فسكت صلى الله عليه وسلم، ثمّ مرَّ رجل مِمن لا يؤبه له، فقالوا: ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حريٌّ إن قال أن لا يسمع لقوله، وإن خطب أن لا ينكح، فقال: هذا خير من ملء الأرض من مثل ذاك، صلى الله عليه وعليه وسلم، فالخير من هو خير عند الله، {...عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ…}.
وفي بعض الأسفار والغزوات استعانَ بعض الأغنياء بسيدنا سلمان الفارسي، يتقدم لهم في مكان النزول، ويهيئ لهم الطعام، وفي ليلة من الليالي نام، من الإرهاق في السفر وما عمل شيء، فجاؤوه، قالوا: ما لك؟ وما عملت شيء ولا هيئت شيء، قال: لا، قد نمت، ما كملت شيء، قالوا له: إذهب إلى رسول الله وهات لنا طعام من عنده، فذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: اذهب إلى بلال، وقل له: إن كان عنده شيء فليعطك، رجعت له وجدت ما عنده تلك الليلة قد نفذ، فأخذوا هم يتكلمون على سلمان، وجاء إليهم، وقال لهم: أن النبي أرسلني إلى بلال، وبلال ما وجدت شيء عنده، وأخذوا يقولون له: أن بلال هذا يخبيء ويخفي، وما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلينا بخِل به، وفعلُه وتركه .. ثم ذهبوا يتجسسون على بلال، ربما إنه عنده شيء مما منعهم، مما أمر به لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوا إلى عنده وأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ…} وهكذا وقعت وقائع كانت أسباب نزول الآية وحكمها عامٌّ على جميع أهل الإسلام إلى يوم القيام، {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} فلا يُدْرى العاقبة لمن؟ والمنزلة عند الله لمن؟
فكم خفي في الخلق من مسكين * * * قــد امتلأ من صفـــــوة اليقينِ
وهانَ بين الناس ذو طمرينِ * * * وهو لدى الحق عظيم عالي
وكم بحسن الظن من امدادِ * * * قد نالـــه من كان ذا اعتقادِ
في خاملِ امام حق هادي * * * يرونــه الناس من الجهالِ
وربما مرَّ الرجل على الرجل في الدنيا فترفَّع أن يسلم عليه، أو أن يرد عليه السلام، ثم يكون ذلك الرجل هو الشافع له عند الله يوم القيامة، فاتقِ الله، وتأدب مع الله في عباده وخلقه، ولا تسخر من أحد حتى من وقع في الذنب، يجب أن تكره الذنب، وأن تنصح الواقع في الذنب، وأن تتجنب القرب من الذنب، ولا تسخر به، ولا تعيِّرُه، وما عيَّرَ أحدٌ شخصًا بذنبٍ إلا لم يمت حتى يبتليه الله به، يوقعُهُ في نفس الذنب -والعياذ بالله- وفي أكبر منه، وإن كان ذنب لا تُعَيِّر، ولا تغتبْ، انصحِ، إبغض الذنب، وأنصح المذنب، وساعده على التخلص من ورطة الذنوب، لا تسيء الظن، لا تغتب، لا تسخر، ولا تعيره، "مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ" -حتى يبتليَه الله به-. والعياذ بالله -تبارك وتعالى- وبذلك العوام عندنا يقولون: (من نَقَد وَرَد)، انتقَد على غيره في شيء، اصبر قليلًا، بعدين تحصله يفعل مثله، الله يجيرنا من الذنوب والمعاصي والعيوب.
وهكذا، حتى قال سيدنا علي في المبالغة للتخويف: لو عيَّرْتُ امرأة بالحبل؛ لخشيت أن أحبل، يبتليني الله حتى أصير كما عيرتها، فلا تعيِّر أحدًا من خلق الله، وتأدب للصانع والخالق والمكون -جل جلاله-، وقال للذين يستعجلون أو يتهمون من يقابلونه يقول سبحانه وتعالى: {كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ} [البقرة:94] أنتم قبل كنتم على الشرك وعلى الكفر، وانقذناكم وهديناكم، لا تشطحوا -لا تبالغوا-، {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ماذا تبتغوا؟ {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}{...كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا…} [النساء:94].
وهكذا يقول: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ..} تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ أي: تعيبوا بعضكم البعض، {تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ.. }، تنسبوا السوء لبعضكم البعض، تذكروا معايب وأخطاء بعضكم البعض، {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ} أي: لا يرمي بعضكم بعضًا باللقب الذي لا يحبُّه، والاسم الذي لا يحبُّه، والكلام الذي لا يليق، {..بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ …}. أن تقول لمؤمن: يا فاسق، وقد أعطاه الله الإيمان ثم تقول له: فاسق، بئس ما نسبت إلى أخيك المؤمن، ويرجع الفسق عليك، والعياذ بالله -تبارك وتعالى- كما أنه "إذا قال المؤمن لأخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما" إن كان فعلًا عند الله كافر كما قال، وإلا -حارَ عليه- رجع إلى الذي قال والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
وهكذا {..وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ..} أو يكون بعضهم كان يهوديًّا فأسلم، وكان نصراني فأسلم، فكان مجوسيا فأسلم، يأتي واحد يغضب منه؛ فيقول له: يا يهودي، يا نصراني، يا مجوسي، قال: {...بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ …} . أو أن يقول لآدمي قابله يا كلب، يا خنزير، يا حمار، قالوا:ومما يوبخ الله بعبده يوم القيامة يقول: خنزيرًا رأيتني خلقته؟! انظر أنا إنسان أمامك، رأيتني خلقته أمامك خنزير، لماذا تقول له هكذا؟! أنا خلقته إنسان، وأنت تقول له هكذا، حمارا رأيتني خلقته؟! كلبًا رأيتني خلقته! أنا خلقته آدمي لماذا تقول له هكذا فيعاقبه الله -سبحانه وتعالى- ويعاتبه على قوله.
{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ…} وفاعل ذلك منكم يتحوَّل اسمه من اسم المؤمن إلى الإسم الفاسق، الذي ينبُز بالألقاب، ويلمز الناس، يعيبهم.. يتحول هو من مؤمن إلى فاسق، {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ …} يا خِسْ -يقلل- حاله، نقل نفسه من إسم الإيمان إلى إسم الفسق، فصار فاسق بعد أن كان مؤمن بتعيبه للناس، بلمزه، ونبزهِ بالألقاب، {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚوَمَن لَّمْ يَتُبْ..} من هذه الأعمال القبيحة الشنيعة { ..فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} الذين حرموا أنفسهم خير الله وفضله، وجوده وطوله، وتعرضوا لعذابه ولمساءلته إياهم.
وهكذا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ..} أي: لا تظنوا السوء ببعضكم البعض، وكان يقول سيدنا عمر: (إذا سمعت كلمة من أخيك لا تحملها على الشر وأنت تجد لها محمل على الخير من أي طريق) لا تحملها على الشر. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ..} إن الله حرَّمَ من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن سوء، {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ..} تعاقبون عليه، وينالكم بسببه أليم العذاب بسوء ظنكم في إخوانكم المؤمنين.
وبذلك علمنا الدواء صلى الله عليه وسلم أنه كلما أورد عليك الشيطان ونفسك سوء الظن في أحد، أن لا تحقِّق ولا تصدَِق، وإلا فلا يكاد يسلم منهن أحد فالظن والطيرة والحسد، فما المخرج يا رسول الله قال:" إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغي، وإذا تطيرت فامضِ " تخلصت منها، لا تبالي بالتطاير والتشاؤم وتمضي لما أنت بصدده، ولا تحقق الظن أي: لا تصدق، وإذا حسدت فلا تبغي، والبغي أن: تذكره بسوء أو تتحامل عليه أو تقصر في حقٍّ من حقوقه الذي وقع في قلبك الحسد له، من خير ما تتداوى به أن تثنيَ عليه، وأن تدعو له في خلوتك فينتهي الحسد كله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ..} ظنُّ السوء بالأحياء وبالأموات من باب أولى، لا تظنوا السوء بعباد الله -تبارك وتعالى-، وليس شغلكم محاسبة الخلق، فإن الخلّاق لا وكّلكم، ولا كلّفكم أن تحاسبوا عباده، ولا أن تحكموا بينهم ولا أن تنسبوا إليهم المآل والعقبى وأنتم لا تعلمون، هذا ليس لكم، له هو يحكم بين عباده، وهو الذي يؤاخذ، وهو الذي يعاقب ما هو أنتم، حتى قال الله لسيد الدعاة إليه {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(22)} [الغاشية:21-22]، {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [الأنعام:107]، وما أنت عليهم بحفيظ، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ..} [ الشورى:48] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولما جاءهُ بعض الذين أنقذهم الله تعالى من النفاق وقبل دين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله الإيمان والإسلام هاهنا، والكفر والنفاق هاهنا، تحت لا يوجد شيء؛ فالإيمان كله فوق في اللسان، وإني كان مني ما كان يا رسول الله فاستغفر لي، فاستغفر له، ووضع يده على صدره فامتلأ إيمان، قال الرجل: يا رسول الله كان معي عدد -نجتمع وإياهم- آتيك بهم؟ قال: لا، أذكرهم لك؟ قال: لا، من أتانا منهم كما أتيتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن أبى فحسابهم على الله، فما أمرني الله أن نفتش عن قلوب الناس صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وكان هذا منهجه صلوات ربي وسلامه عليه.
قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا..} تتبعوا العورات، تسيؤوا الظن وبعدين من وراه تبحث تبحث تبحث تبحث تبحث …بيتأكد، { وَلَا تَجَسَّسُوا..}؛ فذلك من كبائر الذنوب، ومَن تتبع عورات أخيه المؤمن تتبع الله عورته، ومن تتبع عورته فضحه ولو في جوف بيته. وجاءنا في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ستر الله على عبده المؤمن، قال: إن الله جعله سَتورًا، فإذا أذنب الذنب، انحل عنه ستر، فإن تاب عاد الستر إليه وتسعة أمثاله، وإن لم يَتُب حتى أذنب ذنبًا ثانيًا انحل عنه ستر، وجاء في رواية، فإذا فعل كبيرًا، انحلت عنه الستور. فإذا انحلت عنه السُتور، قال الله لملائكتهِ -الموكلين ببني آدم- : استروا عبدي، فإذا أذنب ذنبًا، قالت الملائكة: يا رب عبدك أذنب، يقول: استروا عبدي. فإذا تمادى في الذنب قالت الملائكة: يا ربنا عجزنا وقد عذرنا، فيقول: استروا عبدي، فإذا أصر واستكبر وتمادى قال: الحق -تبارك وتعالى- تخلوا عن عبدي ورفع عنه السُتور، فلو فعل معصية في خلوة -في ظلمة- لأظهرها الله للعباد -والعياذ بالله تعالى- وانكشف عنه السُتور -والعياذ بالله تعالى-، وقال: وإذا استغفر وتاب قبله، ورد عليه الستور كلها وسبحان الستار -جل جلاله وتعالى في علاه-.
قال الحبيب عبد الله الشاطري في مسلك الإنسان وما يجب أن يتنبأ له في معاملة للرحمن:
تخفى القبائح عن أخيك سفاهة *** وإذا برزت تُشابه النساكا.
ولكم عمل كنت تخفيــه ولو *** علم الصديق بفعله لجفاك.
والرب يعلمه ولم يكشفه بل *** أجرى بألسنة العباد ثناك.
فأحسن معاملة هذا الحكيم الرحمن الرحيم -جل جلاله- الستار الكريم، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا..}، فقيل لِرسول الله: ما الغيبة؟ "ذِكْرُك أخاك بما يَكْرَهُ". قال: أفأريت إن كان في أخي ما أقول، قالَ: "إنْ كانَ فيه ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيه -ما تقول- فقَدْ بَهَتَّهُ" . وهكذا جاءنا أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رمى سيدنا ماعز الأسلمي -التواب المنيب عليه رضوان الله تعالى- ، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فشهد على نفسه بالزنى …، فلما رجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع اثنين من الصحابة يقول أحدهم للآخر: ألا ترى إلى هذا الذي كشف نفسه، وأبدى ستر الله عليه حتى رُجِمَ كما يُرجم الكلب، سمعه النبي وتأثر منه، فمروا في الطريق وإذا بميتة وقف وقال: أين فلان وفلان؟ قالوا: ها هم يا رسول الله قدموا، قال: كُلا من هذا، قالوا: يا رسول الله هل يؤكل من هذا؟! هذا ميت! قال: ما أكلتما من لحم أَخِيكُمَا أنتنُ من هذا! وإنه لينغمسُ الآنَ في أنهارِ الجنَّة، قال: ماعز الآن في أنهار الجنة مُنْغَمِس هناك، وتاب التوبة الصادقة وتاب الله. لما تتكلمون عليه؟! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
كما جاء أيضا في الأدب المفرد للبخاري وجاء في المسند الإمام أحمد، أنه مر صلى الله عليه وسلم وجمع من الصحابة على بغلٍ ميت، فوقف عليه وقال لهم: لأن يأكل أحدكم من هذا فيملأ بطنه، خير له من أن يأكُل من لحم أخيه المسلم -أحسن له من أن يتكلم على أحد-.
وهكذا جاء أيضا أنه صلى الله عليه وسلم تقول أم سلمة: أنه خرج صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الجمعة، وجاءت عندي امرأة، فجلسنا نتكلم واغتبنا الناس وضحكنا، قالت: فلما عاد صلى الله عليه وسلم من الجمعة دخل الحجرة فوضع منديله على أنفه قال: أف أف أف قما فقيئا واغسلا أفواهكما، فتعجبوا من انزعاج النبي وأمره! فقامتا، فجاءت سيدتنا أم سلمة تستقئ قالت: أخرجت لحم غليظ. قالت: تذكرت آخر عهدي باللحم قد وجدته قبل اسبوعين قبل الجمعة -إلا قبل- الماضية أكلت لحم هذي الأسبوعين ما أكلت لحم، من أين جاء هذا؟ أظهر الله الأمر المعنوي لهم وصوره لهم بالصورة {..أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ..}. فرجعت للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أقيته، قالت: خرج مني لحم يارسول الله، قال: ذاك لحم أكلتيه أنت والتي جاءت عندكِ هذه المرأة، من أعراض الناس تفكهتم بأعراض الناس، تكلمتم على الناس، لا تعودا إلى مثل ذلك، ونهاهما صلى الله عليه وسلم. قالت: أول ما دخل الغرفة حط منديله على أنفه، وقال: أف أف أف ما أكلتما من لحوما الناس؟ قوما فقيئا.
وهكذا جاء أيضا في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وجاء في الأدب المفرد للبخاري، يقول: أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجلست إحداهما مع الأخرى فجعلتا تغتابانِ الناس، فتعبا من الصيام كثيرا، فبعثتا إلى رسول الله تستأذناه في الفطر، فقال: قل لهما تأتيان، فجاءتا، حمل إناء، قال: قل لهما قيئا، قال: يارسول الله إنهما صائمتان. هم صيام ولا شيء في بطونهم! قال: قل لهم قيئا فقاءت إحداهما نصف الإناء قيحاً وصديداً ولحماً غليظاً، قال للثانية قيئي، فقاءت مثلها فملأت الإناء، قال: "إنَّ هاتينِ صامتَا عمَّا أحَلَّ اللهُ لهما، وأفطَرَتا على ما حرَّمَ اللهُ عليهما؛ جلسَتْ إحداهما إلى الأُخرى، فجعَلَتا تأكُلانِ لُحومَ النَّاسِ" ؛ فكانت تغتابان الناس، ولو لم يخرج هذا منهما لأخرجته النار، واستتابهما فتابتا، قال تعالى: {.. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ..} أمر يتأففون منه وتشمئزون {فَكَرِهْتُمُوهُ} فاكرهوا الغيبة كما تكرهوا أكل لحم الميت؛ فإن الذي يغتاب الإنسان ينهش عرضه وهو لا يدري مثل الذي يقطع لحم الميت ويأكله -مسكين وهو لا يقدر يتحرك ولا يحس به-، ويأكله، فشبه آكل الغيبة بآكل لحوم الموتى.
قال الجنيد بن محمد: كنت أمشي في الطريق وإذا شاب يسأل الناس، فقلت: في نفسي لو أن هذا صرف شبابه إلى الكسب خيرٌ من أن يسأل الناس! قال: رجعت إلى البيت وجدت ثِقَلْ و نمت، فرأيت ذلك السائل -شاب ميت مطروح بين يدي- وقيل -لي- كل لحمه فقد اغتبته، قلت: إنما كان خاطر خطر ببالي -ما كلم حد-، قيل له: مثلك لا يسمح له بمثل هذا! أنت في معرفتك وقربك لله ما يسمح لك، ولا خاطر يخطر تغتاب فيه الناس، ولا بخاطر، مثلك لا يسمح له بمثل هذا!. في ذلك كان يقول بعض العارفين: لو أني رأيت شخصا على معصية وحالت بيني وبينه شجرة ثم رأيته لأعتقدت أنه من أولياء الله؛ لأنه ربما في تلك اللحظة أحدث توبة صادقة وتبدلت سيئة حسنة. اللهم ارزقنا حسن الظن بك و بخلقك.
{ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا..}، قال -صلى الله عليه وسلم- : "الرِّبا اثنان وسبعون بابًا أدناها -أي في الإثم- مثلُ إتيانِ الرَّجلِ أمَّه وإنَّ أربَى الرِّبا استطالةُ الرَّجلِ في عِرضِ أخيه -المسلم-" ، تَسَاهَلَ النَّاسُ بالأَمْرِ وهو خطير. وجاء إيضًا إذا ذُكِرَ أخوك بسوء -أُغْتِيبَ- وأنت في ملأ فذب عن أخيك، كن لأخيك ناصرًا، وللقوم زاجر وفارقهم، ومن ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة. فوجب الذب عن أعراض المؤمنين، إذا اغتيبوا أمامنا نُسكت الذي يغتاب وإن سكت، وإذا فارقناه وتركنا مجلسه.
{ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا..} أي يذكره في الغيبة بما يكره أن يذكر به، {.. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } وختم السورة سبحانه وتعالى تذكيرنا بأصل خلقنا وكيف نكسب الكرامة لديه وحقائق الإيمان؟ حققنا الله بالإسلام والإيمان والإحسان ووفر حظنا من المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة، وزادنا إيمانا ومحبة ومعرفة وقربا ورضوانا أبدًا سرمدًا إنه أكرم الأكرمين، زدنا يا كريم، و ثبتنا على الصراط المستقيم وبارك لنا في أيامنا وليالينا، وأصلح ظواهرنا وخوافينا، واجعلنا من أسعد أمة نبيك محمد برمضان هذا. يا رحمن قد انتصف علينا الشهر فبارك لنا في نصفه الآخر واجعلنا فيه ظافرين مع كل ظافر حائزين للشرف الفاخر بالصدق معك في كل باطن وظاهر.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
15 رَمضان 1444