معاني التقوى وخِلَعِها وتحرير الإنسانية في الفكر والسلوك عن استعباد الأهواء والشهوات
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإمام الحبيب أحمد المحضار في منطقة القويرة، بوادي دوعن، حضرموت، 10 صفر الخير 1443هـ بعنوان:
معاني التقوى وخِلَعِها وتحرير الإنسانية في الفكر والسلوك عن استعباد الأهواء والشهوات
نص الخطبة:
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله يُحيي القلوب بشوارق الأنوار ويُحيي المعالم وكريم الآثار، يُكَوِّر النهار في الليل والليل في النهار، {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} وهو الحاكم في السِّرِّ والإجهار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم القادر الغفَّار، ونشهد أنَّ سيَّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونور قلوبنا محمدا عبده ورسوله ونبيه وصفيه وحبيبه المختار. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المجتبى المصطفى سيدنا محمد مَن ختمتَ به النبوَّة والرسالة وجعلته الدَّالّ عليك بأكرم دلالة، وعلى آله وصحبه ومَن سار في دربه من أهل محبته وقربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أُمَنَائكَ لدلالة عبادك على الحقِّ المبين، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسِيَ بتقوى الله.. تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيبُ إلا عليها.
وهي نورٌ يَقِرُّ في القلب من أثر معرفة الحيِّ القيِّوم القادر عالم الباطن والظاهر مَن إليه المرجع ويَفصِلُ بين عباده في اليوم الآخر؛ تلكم التقوى هي الحاجزة عن كُلِّ سوءٍ وعن كُلِّ مكروهٍ وعن كُلِّ محذورٍ في الأقوالِ والأفعالِ والمقاصدِ والأعمالِ والمعاملاتِ بين الناس لمَن حلَّت في قلبِه استعدادًا للقاءِ ربِّه؛ فلا يصدرُ عنه إلا ما يُرضِي الحقَّ الحيَّ القيّوم على أثر المتابعة للنبيِّ الصادقِ المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيُّها المؤمنون بالله: وبمرقاها ارتقى المُقَرَّبُونَ من الصحابة وآلِ البيتِ الطاهر والصِّدِّيقين والعارفين وأهلِ التَّمكين أعلى الرُّقيّ وسَمَوا بها سُمُوَّاً ميَّزهُم اللهُ به وأعزَّهم فأشهرَ بهم ذكرَهم في السماوات، وجعل لهم النصرَ والتأييدَ والثبات، وأمدَّهم بأنواعِ الألطاف والعناية في الحياة، وتولَّاهم عند الوفاة؛ فكان مماتُ أحدِهم موتَ مَن يشتاقُ لقاء رَبِّ البريات وربُّ البريات يشتاق لقاءَه، ثم هيَّأ لهم في البرازِخ ويومِ القيامة ما هو أهلُه، وأعدَّ لهم في دارِ الكرامة مالا عينٌ رأت ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خطرَ على قلبِ بشر، وكَتَبَ أن يُلحِقَ بهم وبشفاعاتِهم مَن والاهم فيه ومَن وافقَهم في أصلِ الأمر ليكونَ مودَّتُه وموالاتهم من أجله تعالى سبباً للكفَّارة للذنوب والسيئات والتجاوز عن الخطيئات، وليُلحِقَ مَن أحبَّ بمن أحبَّ في عالمِ المنقلَب كما أخبرَ الصادقُ الأطيب صلى الله عليه وسلم.
ثم إنَّ الذين أضاعوا التقوى على ظهرِ الأرض وتعرَّضوا للخَيبة في يوم العرض مهما نازلَهم وأتاهم في هذه الدنيا شيئٌ من مُرَادَاتِ أنفسِهم ففي مجالٍ ضيِّق وفي جانبٍ قصيرٍ سرعانَ ما يتحوَّلُ فيه الحالُ إلى سوءٍ لهم، وهم فيما ينالون يُنازِلُهُم من القلقِ ومِن الوهمِ ومِن الخوفِ ومن الشدائدِ ما تصير به معيشتُهم ضنكا.. ولو ملكوا الأرضَ مِن شرقِها إلى غربِها، ثم عند اللقاء يلقَون الجبَّارَ الأعلى يكرهون لقاءَه ويكره لقاءَهم -والعياذ بالله-، وأعدَّ لهم في القبورِ ما أشار إليه عن قومٍ طغَوا وقال: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}، وأَعَدَّ لهم في القيامة ما لا يُطَاقُ من الشدائد والأهوال ثم يُسَاقُونَ زُمَراً إلى دار النَّكالِ والوَبَالِ. وكُلُّ مَن تعلَّقَ قلبُه بأحدٍ منهم أُدخِلَ في دائرته: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فويلٌ للمتكبِّرين المغترِّين بشهواتِهم والمغترِّين بأهوائهم والمغترِّين بسلطاتِهم يُنَاقِضُونَ أمرَ الله ويُخَالِفُونَ شرعَ الله ويحكُمون بغيرِ ما أنزل الله! وهذا مصيرُهم: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}.
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}
{فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ..} الذين عملوا للهِ وبقَصدِ وجهِ الله على موافقةِ شرعِ اللهِ في تبعيَّةِ محمدِ بن عبدالله، ونِعمَ أجرُ العاملين.
{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بيانٌ شافٍ كافٍ مِن مولانا الرحمنِ الرحيم عن الغايةِ الكبرى والمستقبلِ الأعظم الذي يَستَقبِلُ كُلَّ مَن على ظهرِ الأرض مِن المُكَلَّفين، آمنوا أو كفروا، صدَّقوا أو كذَّبوا، أقبلوا أو أدبروا، أنابوا وخشعوا أم تكبَّروا وضيَّعوا؛ فهذا المصير لكلٍّ مِن الفريقين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}.
أيُّها المجتمعون في الجمعة المباركة في هذا المسجدِ المبارك المُنَوَّر المرتبط بنيَّات المتبوِّئين ذُرَىً في التقوى في السِّرِّ والنجوى والحائزين لإرثٍ للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فيما خَلَّف في أمته وفيما جعل مِن تركتِه لأهلِ متابعتِه؛ أيُّها الحاضرون هذا المحضر: أحضِروا القلوب؛ فالأمر على هذا يدور {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}. فهذه ألويةٌ ممتدَّةٌ للقلوب التي تريدُ وجهَ الله تستظِلُّ بظِلِّ معاني تبعيَّتِها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقصدِهَا وجه الله جل جلاله، في أقوالِها وأفعالِها ومعاملاتِها التي تُقَوِّمُ سلوكَها في الحياة على المتابعةِ والاقتداءِ وعلى الاستسلامِ والاهتداء {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
ألا إنها ساعاتُ إفاضاتِ فضلٍ مِن نورِ الإيمان على الصَّادقِ مِنَّا المتوجِّه إلى الرحمن؛ ليُغمَر بفائضاتِ امتِنان يتطَهَّر بها قلبُه عن الأدران، ويتصفَّى له الباطن والجَنَان، ويزداد له الإيمان والإيقان، ويخرج مِن الجمعة مجتمعًا قلبُه على الرحمن. ومَن اجتمعَ قلبُه على الرحمن جمعَ الرحمنُ له خيراتِ الدارين وسعاداتِ الدارين، فهو رَبُّ العالمين ورَبُّ الأكوان ورَبُّ الدارين، مَن بيدِه ملكوتُ كلِّ شيء.. لا إله إلا هو.
أيها المؤمنون: لحظاتٌ مباركة في جمعيَّةٍ جَمَعَت منكم القاصِيَ والنائي إلى بقعة.. ما سببُ الاجتماع فيها؟ وما الدَّواعي إلى اللقاء وسطَها؟ ليس شيءٌ مِن جميع ما تَنصَرِف إليه الأفكارُ في هذه الدار؛ إلا قصد وجهِ الله الكريمِ الغفَّار، إلَّا أنوار نبوَّة النبيِّ المختار، وأسرار التصديقِ به وبما جاء عنه، وآثار النصرة له صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم التي ابتنى بِنَاهَا وقام أساسُها بخديجة بنت خويلد التي عاد رسولُ الله مِن الغار إليها وأعلمَها النبأ وهي أوَّلُ مَن عَلِمَ به، وأخبرها الرسالةَ وهي أول مَن تلقَّتها عنه عليها الرضوان، وفدَته بالمالِ والجاه والروح.. فَيَا نِعمَ الفِدَاء، وقدَّمت كُلَّ ذلك في نصرةِ الله ورسوله، وقام الأساسُ لنصرةِ الله ورسوله على يدِها المباركة، ولَحِقَ بها السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، ثم مَن يختارهُ اللهُ على مَمَرِّ الأعصار لنُصرتِه ونصرةِ حبيبِه المختار، لا يستسلمون للأهواء ولا للشهوات ولا للأعراف المخالفة للشريعة لكفارٍ أو فجارٍ أو كُلِّ مَن خالف منهجَ الرحمن جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.. أولئك أهلُ الحياةِ الطيبة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ثبَّتَ اللهُ قلوبَنا، وغفر ذنوبَنا، وكشف كروبَنا وكروبَ أمةِ نبيِّه أجمعين، وجعلنا في الهُدَاةِ المهتدين.
اللهم حَقِّق لنا أسرارَ الجُمعة وجمعِيَّة القلوب عليك، ونيلِ المغفرةِ مِن عندك، والانصرافِ وقد رضيتَ عنَّا برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
وأعلِ درجاتِ مَن كانوا سبباً لهذه الاجتماعات، خُذ بأيدي مَن خَلَفَ على الهدى والثبات، وأصلِح شؤونَنا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وقال تباركَ وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ * وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ۚ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ * أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ}
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يُحيي القلوبَ وينوِّرها، ويصَفِّ السرائرَ ويُطَهِّرُها، وأشهدُ أن لَّا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له يُقَدِّمُ ما شاءَ مِن الأمور ويؤخِّرُها، وهو الذي يَحكُمُ باطنَها وظاهرَها، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه {بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، فهو الأمينُ المأمون سيدُ مَن يهدونَ بالحقِّ وبه يعدِلُون. اللهم أدِم صلواتِك على مَن ختمتَ به النبوَّة سيِّدِنا محمد، وعلى آله الأطهار، وأصحابِه الأخيار، ومَن والاهم فيك وعلى منهجِهم سار، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين معادنِ الأنوار، وآلِهم وصحبِهم وأتباعِهم، والملائكةِ المقرَّبين، وعبادِك الصالحين أجمعين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عباد الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله..
{وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} فاحرِص على هذا الِّلبَاسِ ما دُمتَ في الفرصةِ في هذه الحياة فإنَّه عند الغرغرةِ يُغلَقُ بابُ اللُّبس لهذا اللباس، وباب التوبة الذي هو مفتوحٌ لكلِّ الناس حتى تطلعَ الشمسُ مِن مغربِها، إلا إذا بلغَتِ الروحُ الحلقوم فالكُلُّ عندئذٍ يتوبُ ولو كان أكفر كافر وأفجر فاجر؛ ولكن لا تُقبَلُ التوبةُ عند الغرغرة {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ}.
أيهُّا المؤمنون: وهذا الِّلباسُ الأفخرُ الذي لا يمكنُ أن يُوجَدَ في شيءٍ مِن مصانع الأرضِ شرقِها ولا غربِها؛ ولكن في إمداداتِ الرحمن للصادقين معه مِن أتباع محمدِ بن عبدالله يُلبسهم لباسَ التقوى، وهو لباسُ الأمان الدائم، ولباسُ التأييدِ الأعظم، ولباسِ الفخرِ الأكرم، ولباسُ الحماية مِن ربِّ العالمين {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
أوَّله: لباسُ الأعضاءِ بامتثالِ الأوامرِ واجتنابِ النواهي. وثانيها: لباسُ القلوب؛ خِلعَةُ لباسِ القلوب بالمقامات في اليقينِ من التوبة، والورع، والخوف، والرجاء، والشكر، والصبر، والرِّضَا، والتوكل.. وأمثال ذلك، ووراءها لباسُ الأرواحِ بالأحوالِ مِن المحبةِ والشوقِ ومعاني الذوق، ووراءها لباس السِّر، ووراءها لباس سِرِّ السِّر؛ خِلَعُ التقوى يخلعُها الله على مَن يشاء.
اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك لشَرِّ ما عندنا واخلَع علينا خِلَعَ تقواك يا حيُّ يا قيُّوم.
تعرَّض لها أيُّها المؤمن فهذا مِن أعظمِ مقاصدِ الجمعة؛ فإنَّها ساعاتُ مغفرة، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن توضَّأ يوم الجمعة أو اغتسل ومسَّ ما عنده من طِيبٍ ومشى إلى الجمعة ولم يلغُ -بأن أنصت إلى الخطبة متأثرا معتبرا- وصلَّى الجمعة غُفِرَ له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام) مِن فضلِ ربِّك جَلَّ جلاله.
أيُّها المؤمن بالله: ومَن غسَّل واغتسل وبكَّر وابتكر ومشَى ودنا مِن الإمام ولم يلغُ كان له بكلِّ خطوة خطاها عبادةُ سنةٍ صيامُ نهارِها وقيامُ ليلِها).
أيُّها المؤمنون بالله: في مثل هذه المواطن تُوَزَّعُ خِلَعُ التقوى؛ فيَا فَوْزَ مَن حُظِيَ بخلعة منها وأُلبسها {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ}.
ألا إنه الخير من كُلِّ ما سواه، ألا {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
أيُّها المؤمنون بالله: ويجب أن تتحسَّسَ القلوبُ إلى معاني هذه التقوى؛ لنتحرَّرَ من خديعةِ استعبادِنا للأنفس والأهواء، ولأفكارٍ من الشرق والغرب تأتي على الناس فتحرفُهم في فكرِهم وتحرِفهم في سلوكِهم ومعاملاتهم؛ فتحلُّ معصيةُ الله في أعضائهم وفي ديارِهم ومنازلِهم، فلا يُدرَى كم فاتَهم مِن فيضِ فضلِ الله؟! وما الخسران لمَن أحاطت به خطيئتُه فنُزِعَ منه الإيمان؟! ولم يُثَبَّت عند الغرغرة والخروج من هذه الدار!
أيُّها المؤمنون بالله: مقاصد الجمعة: جمعيةُ القلوب على الحقِّ، والاتباع لسيِّدِ الخلق، وأن نرفعَ ذلك الشعار متحرِّرين مِن رقِّ الأغيار ومِن تبعيةِ فُجَّارٍ أو كفار أو كُلِّ مَن خالفَ شرعَ القهَّار وشرعَ حبيبِه المختار صلى الله عليه وسلم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
اللهم ارزقنا في جمعتِنا هذه سرَّ الجمعة وبركتَها وحكمتَها وخيرَها، واخلع علينا خِلَعَ تقواك فلا تنزعْها عنَّا أبدا حتى نلقاكَ وأنت راض عنَّا يا أرحم الراحمين ويا أكرمَ الأكرمين.
ووثِّقوا حبالَ التقوى بكثرةِ الصلاةِ والسلامِ على سيِّدِ المتقين وإمامِهم عبد الله المصطفى الأمين سيِّدِنا محمدٍ رحمةِ الله المُهدَاةِ ونعمتِه المُسدَاةِ، فإنه القائل: (مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ به عليه عشرا) والقائل: (إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة).
ألا وإنَّ اللهَ قد أمرنا بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه وثنَّى بالملائكةِ وأيَّهَ بالمؤمنين مِن عبادِه فقال مُخبِرَاً وآمِرَاً لهم تكريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم على نورِ الأنوار وسِرِّ الأسرار، وعلى الخليفةِ مِن بعدهِ المُختار، مؤانسِهِ في حالَيِ السَّعةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيِّدِنا أبي بكر الصديق، وعلى النَّاطِقِ بالصواب، حليفِ المحراب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عمرِ بن الخطاب، وعلى مَنِ استحيَت منه ملائكةُ الرَّحمن، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخِ النَّبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمام أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيِّدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهِما الحَوراءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى أخواتِها الكريمات، وعلى أمِّها خديجةَ الكُبرى وعائشةَ الرِّضَا وأمهات المؤمنين، وعلى سائرِ أهلِ بيتِ نبيِّكَ الطاهر، وعلى أهلِ بيعة العقبة وأهلِ بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وسائرِ الصَّحبِ الأكرمين، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم يا نَاظِرَاً إلى القلوب نَوِّر قلوبَنا بأنوارِ المعرفةِ واليقين، وألحِقنا بالهُدَاةِ المُهتدين غيرَ ضالِّين ولا مضلِّين، نُحِبُّ بحبِّك الناسَ ونعادي بعدَاوتِك مَن خالفكَ مِن خلقِك.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ومشائخنا ومعلمينا، وأهلينا، ومَن يوالينا، وذوي الحقوق علينا وجيرانِنا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحيائهم والأموات بأوسعِ المغفرات، يا غافرَ الخطيئات، يا مكفِّر الذنوب والسيئات، يا بارئ الأرضين والسماوات ليس لنا سواك غافر فاغفِر يا أكرم مَن غَفَر، واستُر يا أكرمَ مَن سَتَر، وثَبِّت الأقدام على متابعة حبيبك الأطهر.
اللهم نزِّهنا عن الشوائب، وارفعنا في عليِّ المراتب، وتولَّنا بما توليتَ به الأطايب.
اللهم بارك في جُمعَتِنا بركةً نستثمرُ خيرَها أبدَ الآبدين، وندخلُ بها في دوائرِ الهُدَاةِ المهتدين.
إلهنا.. وأعلِ درجاتِ المتقدِّمين في هذه المنازل واجمَعنا بهم في دارِ الكرامة، وبارِك في ذراريهم ومَن يواليهم، وعُمَّ بالخير بلادَنا وبلادَ المسلمين، وعجِّل بتفريجِ الكرب عنَّا وعن المؤمنين، وحوِّل الأحوالَ إلى أحسنِها يا محوِّلَ الأحوال، وعافِنا مِن أحوالِ أهل الضلالِ وفعلِ الجهال.
إلهنا: بلغَ إبليسُ مِن التحريشِ بالأمة ما بلغَ غايةَ في المبلغ؛ اللهم فَرُدَّ كيدَه وكيدَ مَن يُواليه مِن شياطين الإنس والجنِّ عنَّا وعن بلدانِنا وأوطانِنا وعن بلادِ المسلمين، اللهم اجمع شملَهم بعد الشتات، وثبِّتهم على الخيرِ والحق والهدى أحسنَ الثبات، اللهم حوِّل الأحوالَ إلى أحسنِها، وادفع عنَّا الشرورَ ظاهرَها وباطنها، وتولَّنا في الأحوال كلِّها سِرِّها وعلنِها برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
{رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}
نسألكَ لنا وللأمة مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنتَ المستعان وعليك البلاغُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
13 صفَر 1443