الانقاذ والارتقاء باسس ثلاثة: منهج الله، وقدوة رسوله، وصفاء واتحاد القلوب
خطبة جمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة بعيديد، تريم، 23 شوال 1442هـ بعنوان:
الانقاذ والارتقاء بأسس ثلاثة: منهج الله، وقدوة رسوله، وصفاء واتحاد القلوب.
نص الخطبة:
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد للهِ مُقَلِّبِ القلوبِ والأبصار، والمُطَّلِعِ جلَّ جلاله على البواطنِ والأسرار، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له المَلِكُ الحقُّ المبينُ القديرُ الغفَّار، جامعُ الأولين والآخِرين ليحكمَ بينهم ويجزيَ المؤمنين بالجنة ويجزيَ المُعاندِين والمنافقين والكفار بالنار، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه ونبيُّه ونَجِيُّه وحبيبُه وصفيُّه المختار. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمدٍ السائر في خيرِ مسار، وعلى آلِه الأطهار وأصحابِه الأخيار، وعلى مَن والاهم فيك وعلى منهاجِهم سار، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين معادنِ الحقِّ والحقيقةِ والأسرار، وعلى آلهم وأصحابِهم وتابعيهم والملائكة المقرَّبين، وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله.. تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا عليها في السِّرِّ والإجهار.
ألا يا أيُّها المؤمنون: إنَّ الإيمان بالحقِّ جلَّ جلاله يُوجِبُ على مَن آمن أن يُعَظِّمَ منهجَ إلهِه الذي به آمنَ وخالقِه الذي به صدَّق، وألا يتخذ في المسارِ قدوةً ولا أسوةً إلا مَن اختاره له هذا الإله؛ ورأسهم محمد بن عبدالله، وأن يُرَاعِيَ قلبه في شأنِه مع الرَّب؛ ومجلَى حالِ القلب في طُهره واتِّحادِه وأخوَّتِه ومحبَّته لمَن آمنَ بالله ورسوله.
بتلكم القواعد وبتلكم الأسس الثوابت الثلاث يقومُ عِزُّ المسلمين ونصرُهم وكرامتُهم وحيازتُهم لحقائقِ السعادةِ والخيرِ في الدنيا والآخرة.
منهجُ الرَّب لا يستبدلون به سِواه مِن نظامٍ جائرٍ، ولا خاسرٍ، ولا غافلٍ، ولا بعيدٍ، ولا عنيدٍ، ولا مُدَّعٍ، ولا طاغٍ، ولا باغٍ، ولا متكبِّرٍ، ولا مغرورٍ بعلمِه أو مداركِه أو مصنوعاتِه أو تحصيلاتِه؛ فليس لهم حقٌّ أن يُنَازِعُوا منهجَ الله الذي خلقَنا ليصنعوا لنا مِن عندهم مناهجَ بها ننتهجُ، وأنظمةً إليها نحتكم {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
منهجُ الله هو نظامنا، وهو قانوننا، وهو أساسُنا، وهو مسارُنا وهو فكرُنا، وهو اختيارُنا، وهو عملُنا، وهو نهضتُنا، وهو حضارتُنا، وهو عِزَّتُنا؛ منهجٌ مِن إلهٍ حكيمٍ عليمٍ قديرٍ خبيرٍ سميعٍ بصيرٍ {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} {وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}.
وحينئذٍ لا نجدُ في تطبيقِ منهجِ الله والقيامِ به وأدائه على وجهِه قدوةٌ إلا محمد بن عبد الله، ومَن دخل في دائرتِه مِن السابقين الأوَّلين مِن المهاجرين والأنصار، ومِن الصالحين العلماء الأخيار الأطهار ورثةِ النبيِّ المختار مِن الصادقين والمنيبين والخاشعين والهُداة المهتدين بهُدى الله ورسولِه الأمين صلى الله عليه وسلم.
ونُوقِنُ أننا لن نُحسِنَ تطبيقَ منهجِ الرَّب ولا القدوة بحبيبِه الأطيب إلا بصفاءِ قلوبِنا، واتِّحادِها وأُخَوَّتِها وتحابُبها ونقائها عن الشوائب.
بتلكم الأسسِ الثلاث يحصلُ العِزّ والشرفُ والكرامةُ في الدنيا والبرزخِ ويومَ القيامة والنعيم في دارِ المُقَامَة؛ مجاورةً للرحمنِ وأنبيائه ورسلِه والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين، وقُرْبَاً ورضوانا أكبر مِن ربِّ العالمين، و {سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}.
أيُّها المؤمنون بالله جلَّ جلاله: يجبُ أن يأخذَ منهجَ الله مكانَه في عقولِنا وقلوبِنا ومَسَارِنَا؛ فلا نُحَكِّمُ في العقولِ والقلوب ولا المَسار في الحياةِ فكرُ غربيِّ ولا شرقيِّ، ولا عربيِّ ولا عجميِّ، ولا إنسيِّ ولا جنيِّ. ومعنا منهجٌ مِن عالمِ كُلِّ شيء، القادر على كُلِّ شيء، المحيط بكُلِّ شيء.. فمَن نرجو غيره! ومَن نُؤمِّل سِواه! ومَن نُقَدِّمُ عليه جلَّ جلاله! إلَّا أن يكون نفاقاً وكفرا! أمَّا مع الإيمان فلا يُقدَّم على منهجِ الله نظامُ مؤسساتٍ ولا شركاتٍ ولا حكوماتٍ ولا شعوبٍ ولا غيرها مما على ظهرِ الأرض؛ منهجُ الله خيرٌ لنا، ومسارُنا على ما رَسَمَ لنا الإلهُ العليمُ القديرُ واجبٌ علينا وشرفٌ لنا وعِزٌّ وكرامةٌ، وسعادةٌ، وفضلٌ، وإحسانٌ، وعلوٌّ، وسموٌّ، و {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}.
أيها المؤمنون بالله: عَجِبَ بعضُ أهلِ العلم مِن تَحكُّمِ عاداتٍ وتقاليدَ وقوانينَ تُرسَمُ لمثلِ قميصِ الصَّيد والألعاب وغيرها ثم تُطَبَّقُ تطبيقاً وتُنَفَّذُ تنفيذاً في الوقتِ الذي شرعَ الله ومنهجُ الله يُلعَبُ به ويُخالَف وتُترَكُ أحكامُه وتُترَك ولا يُبَالَى بها! وأخذ يقول:
فَوَاعَجَبَـــــــاً من كَوْنِ كُلِّ قبيلةٍ ** تُشَدِّدُ حُكْمَ الجاهليةِ والكفرِ
ومن كَوْنِ أربابِ القنيص وزمرةِ ** الألعاب لهم حُكْمٌ يمشي بلا عُذْرِ
وأحكامُ شرعِ الله مطروحةٌ بلا ** مَلامٍ على مَن زاغَ عنها ولا نُكرِ!
واعجبا! ثم واعجبا!
يجب أن نعلمَ ميزانَ القبول والرَّفض عندنا، كُلَّ قانون وكُلَّ سُنَّةٍ وكُلَّ نظامٍ لصغيرٍ أو كبير لا نقبلَ منه إلا ما وافقَ شرعَ العليِّ الكبيرِ السميعِ البصيرِ اللطيفِ الخبيرِ العليمِ القدير جلَّ جلاله. ونرفضُ ونقبل منه وفيه وعليه كُلَّ ما خالفَ أمرَ الواحدِ الأحد، كُلَّ ما خرج عن منهجِ الفردِ الصَّمد، كُلّ ما شَذَّ عن شرعِ الحيِّ القيومِ الذي لا تأخذُه سنةٌ ولا نوم.
أيها المؤمنون بالله: كذلك يكون الإيمان، وكذلك يجبُ أن يرسخَ في العقولِ والقلوبِ والأذهان، للرجالِ مِنَّا والنسوان، والأطفالِ والناشئة: أنَّ منهجَ الله فوقَ كُلِّ نظامٍ وفوقَ كُلِّ منهج وفوق كُلِّ قانونٍ في العالمِ كلِّه، فالله أعلم، و"الله" أحكم، و"الله" أعظم، و"الله" أرأف وأرحم، و"الله" هو "الله" الأحَقُّ أن يُتَّبَعَ وأن يُخضَع له. أمَّا أن يُستعبَدَ الناسُ لغيرِ الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه. فما ذاكَ إلا التطاول، وما ذاك إلا الادَّعاء، وما ذاكَ إلا الجراءة!!
أيها المسلم الذي إذا وقعَ في قضيةٍ وشأنٍ بينه وبين قريبٍ أو أحدٍ من أهل بلدِه جعل ينظرُ إلى ما يُلَبِّي رغباتِ نفسِه ويتأمَّلُ أيَّ قانونٍ يلجأ إليه وأيَّ إنسانٍ يحتكمُ إليه.. ثم يأبَى إذا رأى أنَّ شرع الله ليس على هواه ولا يحقِّق له مرادَه: أنقذ نفسَك مِن وَحَلِ السَّخطِ والغضب، أنقِذ نفسَك من مُوجِبِ الهلاكِ والعَطَبِ، وحَكِّم شرعَ ربِّك جلَّ جلاله، ولا تُقَدِّم على شرعِ الله عُرفاً لقبيلة ولا قانوناً لدلولة ولا شيئا مما على ظهرِ الأرض إن كنتَ تؤمنُ بالله واليومِ الآخر، وإلَّا فلن يغنيَكَ ذلك القانونُ ولا أولئك الأشخاص مِن الله شيئا أن يصيبَك بالبلايا في الدنيا والعذابِ في الآخر؛ فمَلِكُ الدنيا والآخرة لستَ أنت ولا هم، ولكن هو جلَّ جلاله.
انظر إلى المستكبرينَ عن مناهجِه ماذا فعل بهم وماذا حلَّ بِهم وما كانت نهايتُهم؟ وفيهم النَّمرود يقول {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فما كانَت عاقبتُه وما نهايته؟ وكيف عجز عن إماتةِ حشرةٍ دخلت في أنفِه أو أذنه ثم عكَّرت عليه صفوَه وأقامت عليه الأتعابَ في عيشتِه فلم يهدأ حتى مات.. ما كان يُغني عنه تكبُّره؟ أين قولك أنا أحيي وأميت؟ تُناوىء الخليلَ إبراهيم! وتتطاول على خليلِ الرحمن الرحيم! وتقول أنا أحيي وأميت! ثم تُوقِدُ النارَ لتَحرِقَ بها إبراهيم! فمَن الذي منكم أُهين؟ ومَن الذي منكم شَقي؟ لقد رُفِعَ الخليلُ ورُفِعَ قدرُه وعَظُمَ شأنُه وأُهينُ ذلك المجرم.
ولقد قال قومُ عاد {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} فأُرسِل عليهم الريح العقيم. ولقد استحبَّ ثمود {..الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ}. ولقد قال فرعون {..أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} وقال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} وقال {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} و { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} فمن الذي سُجِن؟ ومن الذي هلك؟ أموسى أو هو؟ ومَن الذي علا وارتفع؟ موسى وقومُه أم هو؟ فأدركَه الغرق وذهبت كلُّ تلبيساته وتسويلاته وخيالاته و {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
أيها المؤمن: حَكِّم شرعَ الله في عينَيك، في أذنيك، في لسانِك، في بطنِك، في فرجِك، في يديك، في رجليك، في أهلِك، في ولدِك، في عملِك، في وظيفتك، في لباسِك، في أقوالِك وأفعالِك حَكِّم شرعَ الله ولك العزُّ ولك الشرف. ولا تُستعبَد لغير هذا الإله، لا لفرد ولا لهيئات ولا لجماعات، وإن أردتَ القدوةَ والأسوةَ فـ"محمد"، فمحمد فمحمد، فمحمد فمحمد، حبيبُ الواحد الأحد {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}.
أيها المؤمنون بالله: في مناسباتِكم وزواجاتِكم، في ألبسِتكم، في حِلَاقَاتِ شعرِكم، في أزياء أبنائكم وبناتكم وأزواجكم: القدوة "محمد وآله"، القدوة "صحابته" القدوة "الورثة به". مَن الذي غيَّر لكم هذه القدوة وحَسَّنَ لكم أن تقتدوا بفاجرٍ أو كافر؟ أو كاسيات عاريات؟ أو فاسقٍ على ظهر الأرض! تستحسنون زيّه! تستحسنون هديَه! تستحسنون أسلوبَه! مَن لعب بقلوبكم؟ مَن لعب على عقولكم؟ حتى خرجتم من الرِّفعَة والقمَّة إلى هذه السَّقطَة! إلى هذه الذِّلَّةِ والمَهَانَةِ! وأن صارت مناسباتُ المسلمين يُفتَخَر بها بتقليدِ فاسقين! وكذلك كثير مِن مظاهرِ حياتِهم!
يا رب أنقذِ الأمة، يا رب طهِّر مجتمعاتِنا عن هذه الأسواء..
أيها المؤمنون بالله: لنعلمَ عظمةَ منهجِ ربِّنا، ولنجعل القدوةَ عبدَه وحبيبَه محمداً رسوله إلينا، ولنتحابَّ ولنتآخَ ولنتعاوَن على ذلك؛ يرفعنا مَلِكُ الممالك، ويحفظنا مِن الزيغِ والمهالك، ويُعِزُّنا في الدنيا ويومَ الوقوفِ بين يديه.
اللهم وفِّقنا لذلك، وأعِذنا من الآفاتِ والعاهاتِ في الظاهرِ والباطن يا ربَّ البريَّات.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وقال تباركَ وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم)
أعوذ بالله مِن الشَّيطان الرَّجيم:
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ۖ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ۚ وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا من خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ الحيِّ القيومِ القويِّ المتين، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له ربُّ العالمين ووليُّ الصالحين، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وصفيُّه الأمين، خيرُ مُقتدَى وأشرفُ دالٍّ على الهدى. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمد وعلى آلِه الأطهار وصحبِه السعداء، وعلى مَن والاهم فيك وبهم اقتدَى، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين ساداتِ أهلِ الهدى، وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعيهم فيما خَفِي وبدَا، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله.
فاتَّقوا اللهَ ولا تعظِّموا منهجاً لغيرِه على منهاجِه، ولا تعظِّموا سبيلًا ولا صراطًا ولا هديًا فوقَ هديِه الذي بعثَ به حبيبَه وصراطَه الذي دعاكم إليه، واقتدُوا بمَن نُودِيَ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}، وأحيُوا سُنَنَ التشرُّفِ والاعتزازِ بالقدوةِ بمحمدٍ وصحبِه والصالحين والأخيارِ والأبرارِ والأطهار من عباد الله، وهدِّموا أوهامَ وخيالاتِ الاعتزازِ بتقليدِ الفجار والفساق والكفار، فوالله ما في تقليدِهم والاهتداءِ بهديِهم مِن خيرٍ مِن قريب ولا من بعيد، بل لأجلِ الحذَرِ من ذلك نودينا على لسان صاحب الرسالة (مَن تشبَّهَ بقومٍ فهو منهم). فلا تتشبَّه إلا بمقرَّبٍ أوجَه، إلا بذِي مكانةٍ عند الحقِّ الحيِّ القيوم الذي إليه مَعَادُك ورُجعَاك ومآبُك، وبيدِه أمرُك في دنياك وآخرتِك "الله" جَلَّ جلاله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
أيها المؤمنون بالله: ولا بُدَّ لنا مِن نقاءِ القلوب وصفائها وأُخوَّتِها، فـالأخَوان المتصارِمان مِن المسلمين لا يغفرُ اللهُ لهما في رمضانَ ولا في إثنين ولا خميس، ولا في مواسمِ المغفرة -والعياذ بالله تعالى- ويقال: (..أنظِروا هذين حتى يصطَلحا)، ولا ينظر الله إلى المُتصارمين والمتقاطعين والمتنازعين، و (..لا يُقْبَلُ عملَ قاطِعِ رحِمِ).
أيها المؤمنون بالله: لابدَّ مِن تصفيةِ القلوب، واتِّحادها على ما يوجبُ الفوزَ في هذه الدنيا وفي يومٍ تُقَلَّبُ فيه القلوب.
أيها المؤمنون: إنَّ الله ينظرُ إلى قلوبِنا ويطَّلع على سرائرنا. ألا: فزيِّنوا محلَ نظرِ ربِّ العرشِ العظيم منكم؛ وذلكم قلوبُكم وأفئدتُكم، وتآخُوا وتعاونوا على البرِّ والتقوى، ولتَتَّحِد صفوفَكم وكلمتَكم على كلمةٍ سواء {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وألا نجعلَ المسارَ إلا على منهج الخالق، ولا القدوةَ إلا خيرَ الخلائق، ومَن دخل في دائرته ممن أُمرنا على لسانِه بالاقتداء به.
أيها المؤمنون بالله: شَرَعَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نَتَوَقَّى إثارةَ الحزازاتِ والفتن، وأن نتقرَّبَ إلى القلوبِ بما يُوجِبُ تَسكِينَها وما يوجب أُلفَتَها، وما يوجب الأخوَّةَ بينها، ونادانا على لسان ربِّه قائلا جَلَّ جلاله فيما أوحى إلى رسوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. فلا يجوز أن يُهدَمَ هذا الحصن من الأخوة لأجلِ شهوةٍ ولا لأجل رأيٍّ يُعظِّمُهُ صاحبه، ولا باعتبارٍ مِن الاعتباراتِ للبلدان أو المناطق أو القبائل أو غيرها مِن أوهام الحجوزات والفوارق التي لا يجوزُ أن تُفَرِّقَ بين الإنسانيَّة فكيف بين أهلِ الإسلام ودينِ الحق.
يا أيها المؤمنون بالله: إلى منهجِ الله، ولا قدوةَ إلا محمد بن عبدالله، ولنتآخَ ولنتحابَّ ينصرْنا الله، ويؤيِّدنا ويقهرُ أعداءَه المتطاولين علينا وعلى دينِنا وعلى ثرواتِنا وعلى أهالينا وأولادِنا في زمنٍ يتزعَّمُ فيه دعوى حقوقِ الإنسان ودعوى الحرية مَن يتزعَّم ويتصدَّر ويُمِدُّ قتلَ الصبيان وقتلَ النساء وقتلَ المدنيين الأبرياء..!
هذا الواقع يحدثكم فاعقِلوا، وقوموا مع ربِّكم ينصُركم {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
تنزَّهوا عن حزازاتِ قلوبِكم وعن سوئها، وتحابُّوا بِرَوْحِ الله، واصدقوا مع الله تعالى، واقتدوا بمحمدِ بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومَن اهتدى بهداه.
وقد خاطب إنساناً في لباسِه في الإزار الذي يلبسه -واللبس مِن العادات في الأصل- قال: "أمَا لك فيَّ أسوة؟!" -لمَّا حدَّثَه عن الإزارِ وموضعِه من الرجلِ والساق- قال: "أمَا لك فيَّ أسوة!؟ أين تراني أضعُ إزاري؟". فنعم الأسوةُ "محمد" في اللباسات والعادات فضلا عن العبادات والطاعات.
اللهم ارزقنا حسنَ الاقتداءِ به والسَّيرَ في دربِه.
وأكثروا الصلاةَ والسلام عليه؛ فربُّ العرش يصلِّي على مَن صلَّى واحدةً على عبدِه وحبيبه محمد، وأولى الناس به يوم القيامة أكثرُهم عليه صلاة، وخُوطِبنَا من قِبَلِ الرحمن بعد أن بدأَ بنفسِه وثَنَّى بملائكتِه فوجَّه الخطابَ إلينا تعظيماً وتكريماً فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمةِ المهداة والنِّعمَةِ المُسدَاةِ البشير النذير والسراجِ المنير عبدِك المنيب الأوَّاه، سيِّدِنا محمدٍ القدوة العُظمَى في كُلِّ شأنٍ، وعلى الخليفةِ مِن بعدهِ المُختار، صاحبهِ وأنيسهِ في الغار، مؤازرِهِ في حالَيِ السَّعةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطِقِ بالصواب، حليفِ المحراب، ناشرِ العدلِ المُنيبِ الأوَّاب، أميرِ المؤمنين سيدنا عمرِ بن الخطاب، وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، ومُنفِقِ الأموال ابتغاءَ وجهِ الكريم المنَّان، مَنِ استحيَت منهُ ملائكةُ الرَّحمن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخِ النَّبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، أسدِ الله الغالبِ، جَمِّ المَفَاخِرِ والمناقبِ، أمير المؤمنين زوجِ البتول الطاهرةِ أبي الحسنينِ علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهِما الحَوراءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى خديجةَ الكُبرى وعائشةَ الرِّضَا، وعلى الحمزةَ والعبَّاس وسائرِ أهل بيتِ نبيِّكَ الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وعلى جميعِ أصحابِ نبيِّك المصطفى، وعلى أهلِ بيِّته وذريَّتِهِ، وعلى مَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهمَ أعِزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشِّركَ والمُشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، اللهم ألِّف ذاتَ بينهم، اللهم أصلِح قلوبَهم، وألِّف بينها، وطهِّرهم عن الأحقادِ والأحساد والكِبر والعجبِ والرياءِ والغرورِ والزُّور، اللهم ولا تسلِّط عليهم فاجرًا ولا كافرًا ولا شقيًّا ولا مأثومًا ولا معاديًا لك ولرسولِك يا حيُّ يا قيوم.
يا قويُّ يا متين اجعل هوانا تبعًا لما جاء به نبيُّك الأمين، وارزقنا حسنَ الاقتداءِ به والسَّيرَ على دربِه ظاهرًا وباطنًا يا ربَّ العالمين.
اللهم فرِّج كروبَ الأمَّة، واكشِف الغمَّة، وأَجلِ الظُّلمة، وادفعِ النِّقمة، وحوِّل الأحوالَ إلى أحسنِها، وابسُط لنا بساطَ الرحمة، وكُن لنا في جميعِ الشؤون سِرِّها وعلنِها بما كنتَ به لمحبوبيك يا حيُّ يا قيُّوم يا رحمَن يا الله.
اصرِفنا مِن جمعتِنا بقبولٍ منك، ورضوانٍ منك، وصدقٍ معك وإقبالٍ عليك، واتباعًا لنبيِّك، ونقاءً في قلوبِنا، وسلامةً ننجو بها {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وثبِّتنا على الحقِّ فيما نقول وفيما نفعل وفيما نعتقد، وفرِّج كروبَ الأمَّة عاجلًا يا قويُّ يا متينُ يا قادر.
يا حيُّ يا قيومُ ثبِّتنا على ما تُحِب، واجعلنا فيمَن تُحِب، واختم لنا بأكملِ الحسنى وأنتَ راضٍ عنَّا.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ الله أكبر.
24 شوّال 1442