آثار الأنبياء في الأمم وآثار خاتمهم في العالمين وانحصار خير الدارين فيما بُعِثوا به

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 27 شعبان 1445هـ، بعنوان: 

آثار الأنبياء في الأمم وآثار خاتمهم في العالمين وانحصار خير الدارين فيما بُعِثوا به

نص المحاضرة مكتوب:

الحمد لله على مِنَنِهِ المُتَكاثِرَة، ونِعَمهِ المتواترة، ومِنَنِه الباطنة والظاهرة، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، يهدي لنوره من يشاء، ويرفع عن القلب الغِشاء، ويأخذ بِيَدِ من أراد إلى مراتب القُربِ والصَّفاءِ، يَهدِي مَن يشاء ويُضِلّ مَن يشاء، اللهم اهدنا فيمن هديت، وانشر الهداية في مشارق الأرض ومغاربها.

وأكرِم قبيلة هذا بانتشار الإسلام في صغارهم وكبارهم ورجالهم ونسائهم، وانشر "لا إله إلا الله" وأحيي بها قلوبًا كثيرة، وأرِنا اللهم إنجازك الوعد لنبيّك محمد أن لا يبقى بيتٌ على ظهر الأرض إلا دخله دينه، واجعلنا في ذلك أسبابًا، واجعلنا لذلك وسائل، واجعلنا أنصارا في ذلك، وباذلين الوسْعَ لطلب رضوانك.. يا الله.. يا الله

  • ما هي عاقبة الحياة؟

وستنقضي هذه الحياة لكل أحد، كلٌّ بعمره القصير، ومن قبله قد مضى، ومن بعده أيضًا.. ستنقضي أعمارهم، وسيجتمع الكل، فلا يجدون فوزًا ولا سعادة إلا مَن اتبع هذا الدين، ودخلَ في دائرة النبيّ الأمين من الأولين والآخرين.

ويُبعَثُ أصناف الكفار بمختلف الأديان من قبورهم بعد النفخة الثانية فيقولون: (يَا وَيْلَتنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا..) فتقول الملائكة: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، فما خالف هديَ المرسلين ودينهم: من الأفكار، من الحضارات، من الاتجاهات، من الأنظمة، من أنواع الأعمال بمختلف أصنافها؛ يُعرَفُ في ذاك اليوم أنه: هباءٌ منثور، وأنه لا يساوي شيء، ولا قَدْرَ له ولا مكان له، والكثير منه سبب للهلاك، سبب للدمار، سبب للعذاب، سبب لدخول النار -والعياذ بالله تبارك وتعالى-

  • ما أعظم مكانة الرسل:

قال تبارك وتعالى في جنَّاتِهِ التي أعدَّها للصالحين -والله يجعلنا وإياكم وأهلينا والحاضرين والسامعين وأهاليهم وأهل ديارهم منهم- : (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) فما أعظم مكانة الرُّسُل، وما أعظم منزلة النبيين والمرسلين، ارزقنا محبّتهم وتعظيمهم يا رب. 

ولا يتسرّب إلى قلوبنا تعظيم فاجر ولا كافر، ولا أفراد ولا جماعات، من الغافلين ولا الفاسقين ولا المجرمين.. بأصنافهم، ومختلف أفكارهم واتجاهاتهم (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)، والمغضوب عليهم والضالون: أعداء الأنبياء، من إبليس إلى آخر واحد فيهم، كلهم مغضوب عليهم وضالون، لا نريد طريقهم، ولا سبيلهم، ولا فِكرهم.

ولنا الشرف والعِزَّة بـ: فِكر المرسلين، ومبادئ المرسلين، ودين المرسلين، وهدي المرسلين (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) ثبِّتنا اللهم على دربهم، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.

  • مصدر الأخلاق الحسنة:

وجعل الله تعالى آثار المرسلين في العالم هداية لمن شاء الله. وكل ما تَنَاسَق وتَنَاسَب مع الفطرة عند آل الشرق والغرب أو بقي فيهم من خُلق كريم أو مَسْلَك طيب صالح؛ فهو أثر من آثار الأنبياء، في شرق الأرض أو غربها، لا والله.. لا مصدر لأيِّ خُلُق حَسَن حميد ولا مَسْلك رشيد؛ إلا والأنبياء أصله، والأنبياء مصدره (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ).

وهم الذين يبقى فيهم مع جند الفطرة السليمة آثارهم الموجودة هنا أو هناك، في أيِّ شَعْبٍ من الشعوب، في أي دَولة من الدول، في أي قبيلة من القبائل، وكُلُّ ما خرج عن منهج الأنبياء فسُوء وشر.

وجاء خاتمهم، وجاء سيدهم؛ فاجتمعت الآثار، واجتمعت الأنوار واجتمعت الأسرار، فما بقي على ظهر الأرض حقيقة خير إلا ومصدره ومعدِنه نبي الخير ﷺ.

  • أعظم شعائر الرحمن:

وأبقى فينا من عظيم هذه الآثار: الشعائر الكبرى: من الصلوات الخمس، ومن الكعبة المشرّفة، ومن رمضان، ومن القرآن الكريم.. فهذه أعظم شعائر الرحمن -سبحانه وتعالى- فينا، ومنتشر خيراتها في شرق الأرض وغربها.

ولا تزال خُيوط تلك الأنوار تصل إلى قلوب كثير في الشرق وفي الغرب،  و: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء) اللهم اهدنا فيمن هديت (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ..) هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون.

  • خطر الاغترار بناشري الفتن والاعتبار بسنة المكوّن:

(..غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) فهم ناشِرُوا الفتن، والإحن، وأسباب المِحَن، وهم ناشروا الخمور، وهم ناشروا المخدرات، وهم ناشروا البغضاء والشحناء، وهم أهل صدارة العدوان، أهل صدارة الظلم، أهل صدارة أخذ حق الغير، وأهل المتصدّرون للمكر في الحياة، المتصدرون للخديعة في الحياة.. كل هؤلاء مَن خالف الأنبياء وخرج عن ركبهم -نعوذ بالله منهم ومن شرّهم-

وكم اغترَّت بهم عقول وقلوب لمسلمين -وللأسف لمسلمين-؛ لأن قوة الصِّلَةِ بالكتاب والتنزيل وأسراره لم تكن لديهم؛ فتسرَّب إليهم مِن قِبَلِ الأنفس والأهواء وضحك إبليس وخداعه: تصديق كثير من الكذب والزَّيْف المجرد.. كذب مجرد وزيف مجرد، ويُنشر على ظهر الأرض!

وكان يقول في صوت من أصوات هذا الزَّيْف والكذب: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) فساد عند موسى! الذي دعاك لتوحيد الرب؟! ولإنصاف العباد وللخروج من الظلم! وإلا أنت الذي تقتّل الأبناء وتخلّي البنات وتستعبد الناس.. الفساد عند مَن؟! لكن هذا هو الكلام (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلْآخِرِينَ) وهذه سُنّة الله في الأرض.

ولا يَحسِب مَن ابتلاهم الله بــ: بُغضه وبُغض رسوله محمد، وما جاء به، وبُغض ذريته، وبغض صحابته، وبُغض صلحاء أمته؛ أنهم يخرجون عن سُنَّة المكوِّن في أيِّ قرنٍ من القرون ولا في أي عصر من العصور. وليرجعوا بأدنى عقل وأدنى إنصاف إلى تواريخ مَن سَلَك المَسْلَك هذا قبلهم، وقد يكونوا من آبائهم أو من أجدادهم أو من قبائلهم أو من غيرهم، ولينظروا ماذا حصل لهم في ماضي التاريخ؟ وإلى ماذا انتهوا ولن ينتظروا غير هذه السُّنَّة! (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا) وإنما أُخِّرَ عنهم العذاب الذي يعمُّهم؛ من أجل رحمة محمد ﷺ. 

  • التحريش بين الأمة:

ومع ذلك فلينظروا أيضًا بكل قُوَاهم وبكل ما أوتوا: هل يستطيعوا أن يَستَحِلّوا بيضة الإسلام؟ وهل يستطيعوا أن يَصِلُوا إلى أغراضهم بين المسلمين إلا عبر عناصر من الذين يَبيعون قِيَمهم ودينهم من المسلمين؟

وبجمعهم لن يُسلَّطوا على أمة محمد، بجمعهم من شرق الأرض إلى غربها.. لو تجمَّعوا ما يقدرون يتسلّطون على أمة محمد؛ ولكن في التفريق بينهم، في التّحريش بينهم، في ضرب بعضهم ببعض.. هذا شغلهم مع إبليس، وهو مشروعه من أوَّل ما رأى أثر البعثة، وعبَّر النبي عن حقيقة ما يختلج في صدر الخبيث العدو: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب)

وعلى هذا أيّ مَن يدَّعي عن مُصَلٍّ يقيم الصلوات أنه يعبد غير الله تعالى نقول له: صدَق رسول الله وكذَبْتَ، اتّهِم عقلك واتّهِم عقيدتك واتّهِم شيخك واتّهم سندك، وارجع إلى سند إلى محمد، سيقول لك مصلي في جزيرة العرب ما يتأتى يشرك! محمد يقول (ومَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) ثم يُصرّح في صحيح البخاري: (أمَا إني لا أخاف أن تُشركوا بعدي).

ولو كان بيحدث الشرك في أُمَّته هو أخوف ما يخاف! كيف ما يخاف وهو أكبر ما يحذره؟! كلنا نحذره وكلنا ما نرى أكبر منه خساسة في العالم ولا في الوجود ولا شر، لكن: (أمَا إني لا أخاف أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى أن تُبسَط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتُهلككم كما أهلكتهم) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب فإن يطمع في شيء ففي التحريش بينهم) -والعياذ بالله تبارك وتعالى-

  • حقيقة حلول المشاكل:

ولا يزال هذا الدين والتوحيد والإسلام والإيمان والإحسان قائم ما دام القرآن، حتى يأذن الله بخراب العالم ويعود الشرك بأصنافه، ثم يحصل من سلالة بني آدم وأجيالهم المتأخرة أنه ليس في الجيل من طرفه إلى طرفه مَن يقول "الله" -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وتلكم نهاية العالم والرجوع إلى الرَّبِّ -جلَّ جلاله-

ولكن في خلال هذه المُدَّة آثار الحبيب ﷺ في الأمة يُجَدِّدُ الله بها الدين؛ وتسمعون المتطاولين والمتجرئين على الجناب الشريف، وعلى ما جاء به، وعلى آله وعلى صحابته، وعلى دينه وعلى سُنَنِه، بأصناف موجودون ويظهرون.. ولكن مَن منهم تقوم له قائمة؟ مَن منهم تكون له عاقبة؟ (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-

وحقيقة حلول مشاكل بني آدم على ظهر الأرض:

 (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ)

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)

هذا الحل الموضوع مِن قِبَلِ الخالق المبدئ المُسَيّر المُدَبِّر ويبلّغه الأنبياء والمرسلون، فمهما أردنا طلب الحل من غيره نكون بلا عقول! مُسَيِّر الأمور قال لك الطريق من هنا، والحل من هنا، كشف الشدائد من هنا، صلاح البلدان من هنا.. إيمان وتقوى! يا رب حقِّقنا به..

  • ازدياد الخير في رمضان والإقبال على الله:

وبذلك نرى تجَدُّد في الخيرات والبركات في جموعات الأمة.. في الصلوات، في مجالس الخير والعلم، في رمضان، وما يتجدّد في رمضان، وكم اجتهدوا..! على رمضان وحده مضت اجتهادات كثيرة، وحاولوا عبر الوسائل المختلفة أن يقتحموا هيبة رمضان! وصلَّحوا الألعاب في رمضان! وسموه كأس العالم في رمضان! وأسواق خاصة لرمضان!

وكان بداية وسائل الإعلام في العالم الإسلامي على قليل من الحياء.. تقول له مناسبة رمضان يجيب بعض البرامج الدينية ويخففوا بعضها، وراحت المسألة وصار رمضان مثل غيره! وتجاوزوا هذه المسألة.. الآن حتى قنوات الإسلام فيها الكثير، بمناسبة رمضان يزيّدون خبابيط يزيّدون خرابيط في رمضان نفسه؛ للإلهاء وللإغفال وللإبعاد!

ولكن النسبة في العالم في الإقبال على الله تزيد ولا تنقص! في بلدكم هذه كم أعدّوا عُدَد لأن يُنهوا شعائر الإسلام؟! والذين أعدّوا تلك العُدَد راحوا وأكثرهم قد انتقلوا من الحياة ولقوا جزاء ما نووا، وجزاء ما عَمِلُوا! ومَن بقي منهم مشرذمين مُشتَّتين، والإسلام يتجدَّد والمجامع تقوى، إن كان بدأوا وفكروا في أن يُقصوها وأن يُضعفوها -وهي في نسبة- فالآن النسبة مضاعفة أضعاف.. تضاعفت؛ ليعلموا أن فوق منهج محمد حارس، وفوق ما جاء به قيّومٌ عليه (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-

ولا نزال نرى عجائب معجزات المصطفى ﷺ، وما ينتشر من آثاره بالخير في عرب وعجم وصغار وكبار، اللهم لك الحمد فأتمّ النعمة.

  • للكون رب:

وعلى المؤمنين به ﷺ أن: يَنتهضوا لإحياء سُنَّتِهِ، وحسن متابعته، وأن يُقيموا الإيمان والتقوى على ما بُعِثَ به ﷺ، ويجعلوا هذا أقوى الأسباب ورأسها وأساسها في: كشف الغُمَم عنهم، في دفع النقم عنهم، وفي رفع سلطة الأعداء.

وهكذا.. وإن وصلوا في بلدة واحدة من بلاد المسلمين يتجاهرون فيها بالقتل وسفك الدماء وهدم البيوت وقصد الأطفال وقصد النساء وقصد الأبرياء، فوصلوا إلى فوق الثلاثين الألف في خلال الأشهر الخمسة هذه التي مضت! وقُلْ لهم: لا تحسبوا أنَّ شيئًا منها ضائع؛ إنَّ كل شيء عند الجبَّار بحسابه، ولكل شيء آثار، ولكل شيء نتائج (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) بتقدير مِن فوق.

قُلْ لهم: شَغِّلُوا قُوَّاتكم ومُخططاتكم واستخباراتكم وما عندكم.. الأمر مُرتب مِن فوق، من وراء عقولنا ومن وراء عقولكم أنتم، ما تستطيعون أن تهتدوا إلى كَفِّهِ ولا إلى مَسْكِهِ؛ لأنه ليس بمادي وليس بحسي، ولا داخل في دوائر استكشاف أجهزتكم.. تطوَّرتم فيها أو تدهورتم.

وهم إلى التدهور حتى في مادِّيَّاتهم أقرب؛ لأن في الكون رب.. لأن في الكون رب، يُقَدِّم ويُؤخِّر ويَخفِض ويَرفَع (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) وهل أحد منهم يُشاركه في هذا؟ إيش ذي القوة اللي تعاقب لنا بين الليل والنهار؟ هي بتتركهم؟ تتركهم يلعبون كما شاءوا؟! لا إله إلا الله!

(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) و: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى يَأْخُذَهَ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهَيَ ظَالِمَة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شديد) -والعياذ بالله تبارك وتعالى- 

  • ما تمام الصيام؟

الله يجيرنا من البلايا والأفات، ويوجِّه القلوب لاستقبال هذه الليالي الزَّاهِيَات المباركات..

جَمَع الله قلوب أهل "لا إله إلا الله" على صدق الوجهة إليه، والتذلل بين يديه، ورزقهم عشق القيام، وعشق الصيام على التمام.

وتمام الصيام: الكف عن الآثام، وحفظ اللسان من الغيبة، والعين من النظر الحرام، والأذن من استماع ما حرَّم الله -تبارك وتعالى-، المحافظة على الصيام بوجهه المرضي للذي شرع لنا الصوم وفرضه علينا؛ لنرتقي في مراقِي تقواه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ كَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمَا مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تتقون) ترتقون في مراتب تقواه -جَلَّ جلاله- أي: فتزداد كرامتكم (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) فتُكرمون في الحياة، وتُكرمون عند الوفاة، وتُكرمون في البرازخ، وتُكرمون يوم الموافاة. وكمال الكرامة: في دار النظر إلى وجه الله الكريم.

فيَا ربِّ واجمعنا وأحبابا لنا  *  في دارك الفردوس أطيب موضع

  • حسن التعامل في رمضان:

ولنِستَفِق بأُسرنا وبرجالنا ونسائنا وناشئتنا: لنُحسِن التعامل في رمضان مع الرحمن -جل جلاله- ونُقيم فيه ما أحبّ، في الليل وفي النهار، ولنُغلِق أبواب التَّأثُّر بمن يَلعَبُ بنا في رمضان أو غيره، ولنتهيّأ لأول ليلة.

  • خصوصية الأمة في رمضان:

ومن خصوصية رمضان أنه مر على الأمم كلها من عهد آدم؛ لكن خصائص للأمة ما كانت للأمم: نظرة خاصة للأمة في أول ليلة، و (من نظر الله إليه لم يعذبه)، يمسون وخلوف أفواههم من الصيام أطيب عند الله من ريح المسك، تستغفر لهم الملائكة، تُزَيَّن لهم الجنة في كل يوم، ويَغفِر لهم في آخر ليلة، أهي ليلة القدر؟ قال (لا، إنما العامل يوفى أجره إذا قضى عمله) يُغفَر إلا القاطع لأرحامه والعاق والديه والمُشاحن الذي في قلبه شحناء وصاحب الخمر والمسكرات.. هؤلاء لا حظَّ لهم من رمضان -والعياذ بالله-

رمضان عظيم البركة، عظيم الخير، وتُضاعف فيه الطاعات إلى سبعين ضعف إلى ألف، جود من جود الله تعالى، وتكفّر فيه الذنوب والسيئات لكل من عرف قدره، وتَحَفَّظ ما ينبغي له أن يَتحَفَّظ لهذا الشهر الكريم المبارك.

  • اجعل رمضان محطة فرج للمسلمين:

فتَفقُّد المحتاجين والمعوزين بما يُستطاع، وبذل ما يستطاع، وشعور القلوب بحالة الأمّة، وحاجة الأمة، ونوازل الأمة، والوجهة القوية إلى الرَّبِّ، والدعاء في الصلاة وخارج الصلاة، وفي الليل وفي النهار: سيجعل من رمضان محطة فرج للمسلمين، وغياث للأمة.

اللهم هيئ القلوب لأن تطرق أبواب جودك فتجود عليها، ونصرك لتنصرها، وعنايتك فَتَسْرِي فيها العناية وتدفع البلاء.

يا حي يا قيوم: اجعل رمضان المقبل علينا من أبرك الرمضانات على أمة الحبيب محمد، ظاهرًا وباطنا، حِسًا ومعنى، في كل بلاد وفي كل دولة.. يا الله.. يا الله.. يا الله..

  • انظر ماذا في قلبك؟

وعلى كل من الحاضرين والسامعين، ثم من يسمع من أحد منهم أو من هذه الوسائل: أن ينظر ماذا في قلبه قبل دخول رمضان؟ من الخضوع للرب، من التذلُّل لعظمة الرب، من الندم على تجرؤنا على هذا الإله، بالأعضاء أو بالقلوب، في الخلوات أو في الجلوات، وما يحق للعبد أن يُعامِل الإله الحي القيوم هذه المعاملة!

وننظر ما ننوي؟ في الولع بالصلوات، وقيام رمضان بالطمأنينة والسكينة والفرح والسرور، وأن نزداد اجتهادًا على ممر الأيام؛ حتى نجتهد في رمضان مالا نجتهد في غيره، ونجتهد في العشر الأواخر منه مالا نجتهد في غيرها من رمضان. تَبَع الإمام، تَبَع القدوة، تَبَع الأسوة، تَبَع النَّقْوَة، تَبَع الصفوة، تَبَع محمد ﷺ.. هكذا كان شأنه (كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فهو حين يلقاه جبريل في رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة) ﷺ.

جُدْ بِهِ علينا يا ربنا، وانظر به إلينا يا ربنا، وإلى أمته، وخَلِّصهم من تبعيات الأشرار والفجار والكفار، في السِّرِّ والإجهار، وأعدهم إلى قوَّة التبعية لنبيك المختار، يا كريم يا غفار.

  • طلب التهيؤ لرمضان:

 يا الله: هيئنا لرمضان، بصدق التوبة والأوبة، والإنابة والخشية، وحُسن الاستعداد والفرح برمضان، وما تجود فيه على أهليه من عطاياك الحِسَان، ومِنحك التي لا حصر لها ولا حسبان.

 يا كريم يا منان: أكرمنا بفتحٍ في القرآن في شهر رمضان (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).

اجعل صيامنا صيام من يصوم إيمانًا واحتسابًا، واجعل قيامنا قيام من يقوم إيمانًا واحتسابا، ووفِّقنا جميعًا.. صغارنا وكبارنا ورجالنا ونساءنا أن نقوم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، وفِّر حظنا من المغفرة، وفِّر حظَّنا من الرحمة، وفِّر حظنا من العتق من النار، والعتق من العذاب، والعتق من النفاق، والعتق من الذنوب والسيئات، والعتق من الغفلات، وارزقنا الإقبال الكلي عليك.

يا الله: بأسمائك وصفاتك وذاتك والقرآن ومن أنزلته عليه اجعل رمضان هذا المقبل علينا في عامنا هذا من أبرك رمضانات الأمة المحمدية، ومن أجلّها عطاء منك، وغياثا عاجلا، ولطفا شاملا، ونَصْرًا لأهل "لا إله إلا الله"

يا الله .. يا الله.. يا الله.. يا الله

ولا تحرمنا خير أول ليلة ولا ثاني ليلة ولا ثالث ليلة، ولا ليلة القدر، ولا أي ليلة من ليالي رمضان، ولا أي يوم من أيام رمضان، ولا أي ساعة من ساعات رمضان، ولا أي لحظة من لحظات رمضان، لا تحرمنا خيرها، ولا تحرمنا نورها، ولا تحرمنا بركتها، ولا تحرمنا نظرك فيها، وجودك لأهليها.. يا الله.

وعجِّل بالفرج لهذه الأمة، وتوجهوا إلى أجمعين، وعجّوا بالأصوات، ومعكم الملائكة والأرواح الطاهرات، ندقّ باب بارئ الأرضين والسماوات، من بيده الأمر كله، وقولوا:

يا أرحم الراحمين * يا أرحم الراحمين * يا أرحم الراحمين  *  فرج على المسلمين

ربِّ اَسْقِنَا غَيْث عام *  نافع مبارك دوام *  يدوم في كل عام  * على مَمَرِّ السِّنِين  

العربية