شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 92 - من قوله: ( الـمؤْمِنُ إِذَا مُدِحَ اسْتَحْيَا مِنَ الله تَعَالَى )

شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 44
للاستماع إلى الدرس

العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية التاسعة والعشرون بدار المصطفى بتريم ، الأحد 21 ذو الحجة 1444هـ، من قوله: 

( الـمؤْمِنُ إِذَا مُدِحَ.. اسْتَحْيَا مِنَ الله تَعَالَى أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِوَصْفٍ لا يشْهَدُهُ مِنْ نَفْسِهِ )

الـمؤمن: الصادق، والإيمان له إطلاقاتٌ كثيرة؛ فقد يطلق بإزاء الكفر، وقد يطلق مقابلاً للإسلام، وقد يطلق مقابلاً لغيره من الأحوال الظاهرة، وقد يراد به غاية الكمال، وأعالي مراتب الوصال.

والإيمان: هو التصديق بالجنان تصديقاً لا يداخله ارتياب، ولا يشوبه شك، وعمل بمقتضى ذلك التصديق مما هو واجبٌ في حق الحق سبحانه وجائزٌ ومستحيل، وكذلك في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كسائر الأنبياء والـملائكة، والكتب، والإخبارات عن الأمور الـمغيبات عن العيان؛ كإعادة الخَلْق، وسؤال الـملكين في القبر، وتنعيمه فيه، وتعذيبه فيه، وبعث الأجسام، والحساب، والـميزان، والصراط، والحوض، والجنة، والنار، وكل ما جاء عن الله مما أخبرنا به على لسان أنبيائه، وأنزله في كتبه، وكل ما أخبر به الأنبياء كذلك، فهذا حدُّ الإيمان، وبهذا يسمى مؤمناً، ويخرج عن حيِّز الجاحدين، وزمرة الـمنكرين.

والـمراد هنا: الـمؤمن الكامل، الذي يتلقَّى علومَ اليقين كشفاً، وهو إذا مُدِحَ.. استحيا؛ لتحقُّقه بشهود صفاتِ سيده الـمستحقِّ لكل الـمحامد، ويرى صدور كل الـمحاسن الـممدوح عليها بارزةً من حضرة فضله، فلا يرى فيها استحقاقاً.

فرتبة الإيمان شعارُ صاحبها الحياءُ من الله والإجلال والتعظيم، فإذا مُدح.. استحيا؛ لمشاركته في رتبة الحمد التي هي مستحقةٌ لله، ومن إضافة الأفعال إليه، وهو يراها من الله، لا يرى لغيره معه فعلاً ولا وصفاً يقتضي أن يثنى عليه به، أو يمدحه به، فهكذا الإيمان.

والإيمان من صفات القلوب، ومطالعاتها للمغيبات بنور الإيمان من وراء سجف الأكوان، وهو بين رتبة الإسلام التي مقتضاها الوقوف على ظاهر الأفعال، وبين رتبة الإحسان التي مقتضاها محوُ الأغيار، وانطماس الآثار بالكلية؛ كما أشار لذلك صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام حين سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان.

فصاحب الإيمان متلوِّن؛ لبقاء شهود الغيرية، وصاحب الإحسان متمكن؛ لفنائها عنه بالكلية، وصاحب الإسلام يتبع الأخبار، ويطلب الدلائل والآثار، يرجو الجنة ويخاف النار، وهو بعدُ لم يصل إلى مقام الأبرار؛ فغاية حاله الوقوف لا يتعدَّى ذلك، ولي في ذلك:

الإيمانُ يعطى لمن كانت بصيرته * تنظر غيوب بدائعْ صورة الحكم

إذا مُدِحْ ذاك تستحيي سريرته * أن يثن عنه بما هو فيه منعدم

وعندما تطلق عليه الألسن بالـمدح وهو يعلم ما هو عليه من القصور.. فلا جرم يزداد شكره لربه، ومقته لنفسه إذا كان ذا علمٍ وبصيرة، وبضد ذلك تكون حالة الجهَّال والـمغرورين؛ أنهم [لا] يرون قصورهم، فإذا أثنى عليهم بحالة لم تكن فيهم.. فرحوا وطالت نفوسهم، وشاركوا الحق في صفاته، ونسوا ما ستره عليهم من قبائحهم وموابق فضائحهم، فكانوا لذلك أجهل الناس، لذلك قال الـمؤلف رضي الله عنه:

( أَجْهَلُ النَّاسِ: مَنْ تَرَكَ يَقِينَ مَا عِنْدَهُ لِظَنِّ مَا عِنْدَ النَّاسِ )

وكان أجهل الناس لأنه اغتر مع ظهور اليقين ، والناس جهال بحاله، حيث ظنوا ما مدحوا لأجله فيه، فكانوا جهالا بحاله، وحاله غيب عنهم، وهو اغتر بمدحهم وهو متيقن أنه ليس عنده ما مُدح به وأُثني عليه به، فكان أجهلهم لذلك.

ومن عظمِ جهله وشدة حماقته: أنه ينافح عن نفسه، ويخاصم لها، ويزكيها، ويبرئها عن العيوب بعدما سمع من العالـم بها قبل إبرائها ، والـمطَّلع على خفايا عيوبها فقال: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ، وقال: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ)، وأكثر خصام الجهال ومعاداتهم من أجل ما يلحقها من الذم والتنقيص من بعضهم بعضا، فإذا أردتَ أن تعرف أن أكثر الناس لا يعلمون كما وصفهم الله بذلك  فابحث عن هذا تجده عياناً بأوضح حجةٍ وبرهان.

والـمادح: إما ان يكون من أهل الدِّين .. فقد حصَّل خيراً بظنه، لكن فاته قصم ظهر أخيه؛ كما جاء في الحديث ، وإما إن كان من العوام والأشرار .. فما مدحوا إلا ما وافقهم، ولا يوافقهم إلا ما كان من جنس ما هم عليه من الأخلاق اللئيمة، والخصال الـمذمومة، فليكن الـمريد أشد خوفاً لذلك، ولي في ذلك:

أشد الناس في الجهَّال جهلاً * إذا أُثني عليه رضي واستبشـرا

ونسـي معايبه وعظم ذنوبه * وستر فضائح والإله لها يرى

تاريخ النشر الهجري

22 ذو الحِجّة 1444

تاريخ النشر الميلادي

09 يوليو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام