شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 91 - من قوله: ( الْأَكْوَانُ ثَابِتَةٌ بإِثْبَاتِهِ.. )

شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 44
للاستماع إلى الدرس

العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية التاسعة والعشرون بدار المصطفى بتريم ، السبت 20 ذو الحجة 1444هـ، من قوله: 

( الْأَكْوَانُ ثَابِتَةٌ بإِثْبَاتِهِ، وَمَمْحُوَّةٌ بِأَحَدِيَّةِ ذَاتِهِ )

فنعت الذات بالأحدية، التي لم تبقَ ظهوراً للثنوية؛ فهي مبالغةٌ في نعت الوحدة، والأحدية: وصفُ الذات إذا ظهرت وبطنت الصفات، والأكوان من حيث هي أصالةٌ معدومة لا وجود لها عند ظهور الذات؛ لأن الأكوان آثار الصفات، وقد علمت اندراج الصفات عند تجلِّي الذات، فالأكوان الآن معدومةٌ ممحوة.

فأحق ما هنا أن يقول: الصفات مندرجة، والآثار ممحوة، وحيث بطنت الذات، وظهرت الصفات.. فالصفات مؤثرات، ولا بد لظهورها من أثر يظهر فيه سلطانها، وتتميَّزُ فيه أعيانها، فهي ثابتةٌ بإثباته، حيث توجَّه إليها بالإثبات.. ثبتت، وحيث خصَّصَها بالتعيين تعيَّنت.

فالكلام في ذلك تابعٌ للنظر؛ فإن نظرنا إلى الذات ونعتها.. انمحت الأكوان، وذهبت الأعيان، وفني الـمكان والزمان، ولم يبقَ إلا الواحد الأحد؛ فالواحد وصفه، والأحد نعته.

وإن نظرنا إلى الصفات وتعدد مظاهرها.. قلنا بثبوت ما أثبتته، وتخصيص ما خصَّصته، وإتقان ما علمته، وتقدير ما قدَّرته هذه الأوصاف وغيرها مما أظهره من صفاته وأسمائه، فلا يظهر وصفٌ، ولا يتحقَّق اسمٌ ما لم يشهد أثره، ولم يسمع خبره، ولي في ذلك:

المحو نعتٌ لكل الكون إن نظرت * إليه دون وجود الواحد الأحدِ

وثابتٌ إن رأيت الله مثبته*  فوحدة الذات تنفي كثرة العددِ 

فكن حريصاً على تحقيق ذاك فما * في الكون موجود إلا الواحد الصمدِ

وحِكمة ثبوت الكون: ظهورٌ فيما يظهر تجلِّي كمال الربوبية على رفعة العبودية، فإذا أثبتك.. فمقام العبودية يقتضـي الـمحاسبة وتصحيح الـمعاملة، ومقتضى ذلك: أن تكون متَّهِماً لنفسك، ومعاتباً لها في سائر أحوالك، فلا ترضى عنها، فذلك مقتضى العبودية؛ لذلك قال الـمؤلف رضي الله عنه:

( النَّاسُ يَمْدَحُونَكَ؛ بِمَا يَظُنُّونَ فِيكَ، فَكُنْ أَنْتَ ذَامّاً لِنَفْسِكَ؛ بِمَا تَعْلَمُهُ مِنْهَا )

الناس: هم البشـر الـمأنوس بهم بعضهم ببعض، وواحدهم إنسان، والناس بالضـرورة يمدحون من ظنوا منه الأفعالَ الجميلة، والخصال الحميدة، فبالضرورة يثنون عليه، ويمدحون مَنْ أنسوا منه ذلك، وذلك كما علمت أنها نعمةٌ من الله أن ستر عيوبك، وقبائح ذنوبك، التي لو اطلع عليها أودُّ الناس إليك.. لمقتك عليها، ولقلاك وهجرك من أجلها.

فإذا علمت أنَّ ذلك ستر الله هو الذي جمَّلَ أفعالك، وسدَّدَ أقوالك، وأصلح أعمالك.. فحقُّك أن تشكر الله بما أظهره عليك من الجميل وسَتَرَ من القبيح، وأنت عليمٌ بما أنت عليه من العيوب، ومقارفة الذنوب، فكن ذامّاً لها على ما تعلمه من سوء أفعالها، وقبح أحوالها.

ولا يغترُّ بظن الناس ويترك يقين ما عنده إلا جهولٌ، لا يُميِّز بين محاسن الأحوال وقبائحها، فلا يرى ما هو عليه من النقص والإهمال، لعظم ما ندب إليه من الأعمال، وارتكاب ما نهي عنه من الأفعال، وبتقدير إحسانه فهو من فضل الله وسابغ نعمته وسابق منَّته، فكيف يسنح إلى مدح الخلق أو يطمئن إلى ثنائهم، ومدح الـمادح وبالٌ على ضعفاء اليقين، الذين لم ترسخ أقدامهم في حقائق التمكين؟!.

وكان السلف الصالح يكرهون الـمدح، وينكرون على الـمادح، ويرون أن ذلك نقصٌ لأحوالهم، وجالبٌ لمفسدات أعمالهم؛ كالرياء والعجب والتصنُّع وحب الشهرة، وهذا إذا كان فيهم ما مُدِحوا به، وأما إذا كان ما مُدِحوا به غير موجودٍ عندهم.. فذاك أعظم قبحاً، وأشد حرباً.

وما نُقِل من الـمدح والثناء على أكابر الصديقين والعلماء.. فذلك بما فيهم مع ما هم عليه من اليقين، ويرون أن ذلك من الله بارز، ومنه واصل؛ لفنائهم عن أنفسهم عن أن تستحق مدحاً، ويرون الخلق وما يجري عليهم رسلاً من الله إليهم، فلا يزيدهم الـمدح إلا نشاطاً، ولا يورث عندهم إلا شكراً لمن وصل إليهم من حضرته وثناءً.

وأما ضعفاء اليقين.. فلم يحظوا بهذا الـمقام، ولم يخرجوا عن رؤية نفوسهم ورؤية الأغيار؛ فالـمدح عليهم ضارٌّ، ومقامهم يأبى ذلك، بل الأنفع في حقهم: اجتناب الخلق عنهم، وازدراؤهم لهم، ورؤية ذلَّتهم وذبولهم وخمولهم.

ومن حقهم: أن يسكنوا إلى من يذمُّهم، ويغضُّ من مقامهم، أولى من سكونهم إلى من يمدحهم ويكرمهم، اللهم إلا أن يفارقوا من تولَّع بذم الطائعين؛ لعصيانه وانتهاكه لحرمات الله، واستصغاره لشعائره، فلا جرم أن يهجروه بهذه النية.

ولا يتحقق بهذا الـمقام على التمام ويحرز هذه النيات إلا مَنْ قد خامر اليقين قلبه، وامتزج الإخلاص بلحمه ودمه، وكذلك سكونه إلى من يكرمه، ومحبته له، إنما أحبه وواصله وخالَلَـهُ لما عظم من شعائر الله، وأكرم من انتسب إلى جناب الله، فلا حرج في ذلك أيضاً عند صحة النية، وصدق الطوية.

ويصدق ذلك: أنه لو أكرم أحد أقرانه ووقَّره أكثر منه.. لم تنقص منزلته عنده، ولم تتغير عمَّا كان عليه، وعلامة كونه هجر الأول: أنه لو مدح واستصغر أحد أقرانه من أهل الدِّين.. أنه يهجره ويقلاه لذلك وإن كان به برّاً وله مساعداً؛ فللصدق دلائل أحوال وقرائن تبيِّنُ ما كان لله مما كان لغيره.

فحقُّ الـمريد السالك: ألاَّ يسكن إلى الـمدح ولا يرضاه ما دام لنفسه عنده وجود، ويرى مَنْ ذمَّه أنه أهدى إليه معايبه التي غفل عنها، ونبَّهه عليها، ومناصراً له ومؤازراً، ومن لم يجد ذلك ولم يقدر عليه .. فلا أقل من ألاَّ يعاديه، ولا يحقد عليه؛ فذلك أقل مراتب الصادقين، وأما إذا قام لها مخاصماً، ومن أجلها معادياً.. فلا يخفى أنه لم يشَمَّ رائحةَ الصدق.

فإياك والإنكار على من رأيته ممن ينسب إلى الطريق بهذه الحالة؛ فقد تكون للصادقين مقاصد محمودة في كل ما يتعاطونه: إما رأفة به – أي: الـمعادي – لئلا يتجرَّأَ على عباد الله، أو ليدفعوا عنه بردِّهم عليه ما هو أعظم من انتقام الله وانتصاره لمن ترك مراده اكتفاء به؛ فانتقام الله ونصره على من انتهك من التجأ إليه واكتفى بنظره.. أسرعُ من السيل إلى محلِّه، فقد يخاصمون لهذه النية، فلا اعتراضَ عليهم فيما تعاطوه، فإذا ثبت اختصاص الله لهم وتوليه.. فلا يظن بهم أنهم ينتقمون لأنفسهم، أو يخاصمون لأجلها، فهم أجلُّ من ذلك، ولي في ذلك:

الناس يثنون والتحقيق أنهمُ * أهدوا إليك غروراً لست تدريها

لا تتركن يقيناً منك ظنهم * ففيك عن مدحهم شغل بما فيها

ففي النفوس عيوبٌ فاحتقارهم * خيرٌ لمن في طريق الصدق يدريها

ومقت النفس وعدم الالتفات إلى رؤية الأوصاف منها: علامةُ الإيمان، والإيمان بما أخبر الله عنها واجب، وقد أخبر سبحانه بقوله: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا)، وقال في وصف عدم براءتها عن الأسواء واتباع الأهواء: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ﭽ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ لذلك كان الـمؤمن لا يزال متَّهِماً لها، وذامّاً لها في جميع أفعالها، إلا ما مدحه الله

تاريخ النشر الهجري

21 ذو الحِجّة 1444

تاريخ النشر الميلادي

08 يوليو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام