شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 89 - من قوله: (مَا حَجَبَكَ عَنْ اللهِ وُجُودُ مَوْجُودٍ مَعَهُ ؛ إذ لا شيء مَعَهُ..)

للاستماع إلى الدرس

العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية التاسعة والعشرون بدار المصطفى بتريم ، الخميس: 18 ذو الحجة 1444هـ، من قوله: 

فلمَّا كان النفورُ عن رؤية الأغيار من جنَّة أو نار مطلب المقربين الأحرار؛ لذلك أشار المؤلف بقوله رضي الله عنه:

( مَا حَجَبَكَ عَنْ اللهِ وُجُودُ مَوْجُودٍ مَعَهُ، إذ لا شيء مَعَهُ، ولَكِنْ حَجَبَكَ عَنْهُ وَهمُ وُجُودِ شيءٍ مَعَهُ  )

ما حجبك عن الله – أي عن وجوده وشهوده ذاتاً ووصفاً وفِعلاً - وجودُ موجودٍ معه، إذ لا موجود معه فيكون له نِدَّاً أو شريكاً فيكون له ضِدَّاً، وإنما حجبك وَهْمٌ قام في مخيلتك، وإلا  فيتعالى عن إن يحجبه شيء إذ لو حجبه .. لستره، ولو ستره .. لقهره: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) ولو حجبه لكان به محيطاً وهو بكل شيءٍ محيط، ولسبق وجود ذلك لوجوده، وقد علمتَ وجوب قِدمه واستحالة عدمه ولو كان كما يظنه من يشبهه بالأجسام المحصورة في جهة لانعكس الحكم أي لصار القديم حادثاً، والواجب جائزاً والجائز واجباً، ولا قائل به.

 بل الحجاب: ما يقوم بالعبد من صفة القصور عن إدراك حقائق الأمور، وعدم قابليته لقوة الظهور، فكلَّما قويت قابليته لذلك، ونمى استعداده لِما هنالك انكشف لها من ظهور الحق الظاهر، والنور الباهر بحسب ما فيها من الاستعداد، وذلك متوقِّف على ما وصلها من مواهب الإمداد ولا تزال هذه الإمداد تتواصل، ولا تزال هذه الحجب تنكشف أبداً في عمر الآخرة الطويل، وتتضاعف بحسب التضعيف الأخروي، فكلَّما كشف لها عن تجلِّ .. ترقَّت به إلى أكمل، فلا نِهايةَ لكماله، فكلَّما شرب كأساً.. زاد إلى الشَّراب شبقاً .

وثبوت ما سواه شرعاً لا يُناقض كونه واحداً بلا نِدْ. بل إثباته أدلُّ على توحد موجده وقدرته وإرادته وباقي صِفاته من قِدم الصَّانِع والظِل لا يحجب عن شخصه المنبسط عنه، بل يدلُّ من له عقل اللهم إلا أن يكون أكمه البصيرة، مطموس النُّور والسَّريرة، أو كان خُفَّاشاً لا يطيق فيضان نور الشمس، فقد يفوته تحقيق وجود ذلك لا العلم به، ولكن علم قهر وعلم أمر، فعِلم الأمر هو: ما نزل في القلوب، وعلم القهر هو: شهادة أهل الجحود بنفس الوجود (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله) ، ولي في ذلك: 

ليس الحجابُ وجود ثالث فلذا * قلنا الحجاب توهم صورة الحجب

فلا نظير ولا نِدَّ يكون له * ولا شبيه ولا مثل ولا نسب

فأعجب لمن يُنكر أن الله خالقه أو غائب عنه هذا غاية العجب

فبظهوره ظهرت، وبنوره عُرِفت، وبحسب أسمائه تميَّزت؛ لذلك قال المؤلف رضي الله عنه: 

( لَوْلَا ظُهُورُهُ فِي الْـمُكَوَّنَاتِ مَا وَقَعَ عَلَيْهَا وُجُودُ إِبْصَارٍ.. لَوْ ظَهَرَتْ صِفَاتُهُ اضْمَحَلَّتْ مُكَوَّنَاتُهُ )

لولا ظهوره الباهر، ونوره الظاهر في سائر المظاهر، المحيط عليها بحيطة التكوين.. لما ظهرت جهات التأيين؛ فالمكوَّنات فرعٌ عن تكوينه، والمغيَّباتُ من العوالم الملكوتيات والجبروتيات، وظواهر المشاهدات الملكيات الحِسِّيات.. مظاهرُ وآيات، وبيان دلالات تدلُّ على ما صدرت عنه من الأسماء والصفات، فلولا قيامه بها في وجودها واختراعها في قدم أعيانها، وإبداعه لصورها في فطرها وأجسامها.. لما ظهرت ولا تعيَّنت ولا تصوَّرت .

فبحكمته في احتجابه بها ظهرت، وظهر منها ما هو مقتضى علمه فيها وبها ومنها، فلو ظهرت الصفات.. لاندرجت آثرها، وغابت مظاهر شموسها وأقمارها؛ لانقهارها تحت سلطان ظهوره، واحتراقها بإشراق نوره.

ولكنه سبحانه بحكمته البالغة، وكلمته السابقة اتَّصف بالعلم، والعلم يطلب ظهوره بمعلوم، ولا بد من تخصيص معلومٍ من معلوم، فاتصف بالإرادة، ولا بد لنفوذها من قدرةٍ تامةٍ تمضي ما خصَّصته هذه، فاتصف بكونه قادراً، وكذلك بقية الصفات يطلب ظهورها بتأثيرٍ خاص، فاقتضى الكمال الإلهي كمالَ كل وصفٍ من أوصافه، وظهور كل نعتٍ من نعوته.

فأبدع الكائنات على حسب ما يقتضيه ظهور هذه الصفات؛ فلو ظهرت الصفات بوحدتها وكمالها من لبس التغاير..  لذهب صورة التكاثر الذي أُلهِيَ به من تفرَّق في وَهْم التغاير، فلو ظهرت الصفات.. لذهبت الجهات، واحترقت بنورها كل ما أدركته السُّبُحات، بذلك جاءت الأخبار والدلالات([1])، فأين البصر والإبصار والمبصـر؟!، وأين التعدد في ظهور الوحدة؟!.

فلم يبقَ إلا وصف الموصوف، وعند تجلِّي الموصوف يندرج الوصف في ظهوره، وتنطمس الأنوار في إشراق نوره، ويكون هو الموصوف بوصفه لنفسه بنفسه، ولي في ذلك:

لولا ظهور وجود الحق في الصور * ما بان للكون من عينٍ ولا أثرِ

ظهرت حتى جعلت الكل منعدماً * وباطن أنت محجوب عن البصـرِ

بحجب عزِّك حتى ظنَّ ذو سفهٍ * أنْ ثَمَّ غيرٌ تعالى الله ذو القدرِ

تاريخ النشر الهجري

19 ذو الحِجّة 1444

تاريخ النشر الميلادي

06 يوليو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام