تفسير سورة النازعات -4- متابعة السورة من قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى)

تفسير جزء عمَّ - 101 - مواصلة تفسير سورة النازعات {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.

نص الدرس مكتوب:

 (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36) فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41))

الحمد الله مُكرمنا بكتابهِ وشريف خِطابه، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ومُصطفاه سيّد أحبابه، سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه، وأهل حضرة اقترابه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى الملائكة المُقرّبين وعلى جميع عباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 أما بعد،،،

فإنّنا أيّها الإخوان والأحباب في تأمّلنا لكلام ربّ الأرباب، وتدبُّرنا لمعاني الكتاب، عسى أن نَحظى بِنَصيب من فقه ووعي الخطاب، قد مررنا على أكثر آيات سورة النّازعات في ذكر بعض معانيها، والقليل من هذه المعاني لِمَن أخذه بحقّ مُوصلٌ له إلى الكثير مِن العطاء الواسع والجود المُتتابع والقُرب من الحقّ ومرافقة النبيّ الشّافع.

فإنّما الحسرة على القلوب والعقول التي هُيّئ لها أن تُدرِك هذه المعاني الطيّبة الرّافعة لأصحابها؛ فلم تُصغ ولم تُلق لها بالاً ولم تَشتغل بها ولم تُقبل عليها ولم تَهتمّ بها، ثم حُشيت بأقاويل هي أباطيلٌ وأضاليل، من أقاويل من لا يعرف إلّا السُّفلى ولا يتكلّم إلا بالمُنحطّ المُنحصر في الحياة القصيرة، (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) [النجم:30]. 

قال الله تعالى عن هذا الصّنف، آمراً نَبيّه أن يُعرِض عنهم لأنّ ربه أعرض عنهم، فقال: (فَأَعۡرِضۡ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكۡرِنَا وَلَمۡ يُرِدۡ إِلَّا ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا * ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ) [النجم:30-29]؛ فأولئك يَحكم عليهم هذا الكتاب والخطاب بالهوان والانخفاض، كما يحكم للذين تأمّلوا معانيه وتدبّروا ما فيه وارتقوا بمراقيه، بالرِّفعة الدّائمة والعلوّ الباقي المستمرّ، و"إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ، 

يامُنزل الكتاب؛ ترفع به أقواماً وتخفض آخرين، نسألك بالكتاب ومَن أنزلته عليه أن تجعلنا ومَن حضر جمْعنا ومَن يسمعنا وأهلينا وأولادنا أجمعين ممّن ترفعهم بهذا الكتاب .

  • فإنّ مَن رفعه الله بالكتاب دام رفعه، فإذا جاءت الواقعة الخافضة الرافعة رُفع فلم يُخفض. 
  • ومَن لم يُرفع بهذا الكتاب؛ فمهما ذهب عن الأذهان انخفاضه فسيكون أجلى وأكبر وأوضح انخفاضاً له يوم تأتي الواقعة. 

(خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) [الواقعة:3]؛ فيُخفض ولا يرفع أبداً؛ نعوذ بالله من جميع الضّلال فيما خَفِي وفيما بدا، وأسعدنا الله وإيّاكم بتأمُّل كتابه وتدبّر خِِطابه وربطنا بسيّد أحبابه ورزقنا التخلّق بأخلاقه والتأدّب بآدابه، اللّهمّ آمين . 

وفي رمضان هذا وفي كلّ رمضان: 

  • كم مِن مُرتفع، كم من مُنتفع مُستمع مُتّبع، يصدق؛ فيرى مِن آثار الصّدق مع الرّحمن، انفتاح أبواب الامتنان والجود والاحسان بما لا يدخل في حُسبان، وهكذا يُعامِل الرّحمن مَن صدق معه. 
  • وكم مِن خاسر يَخرج رمضان ويَدخل وقلبه غافل وذِهنه ذاهل وربّما تعلّق بالأسَافل. 

فياربّ ذكّرنا، وياربّ علّمنا ويارب طهّرنا ويارب قرّبنا ويارب بالقرآن نوّرنا .

تأمّلنا بعض المعاني في الآيات الكريمة حتّى انتهينا إلى قوله جلّ جلاله وتعالى في علاه: (فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ (34)) فإذا جاءت الطّامّة الكبرى التي مجيئها مُحقّق يقين: 

  • (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل:1].
  • (قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [ التغابن: 7].  
  • (قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَوَّلِينَ وَٱلۡأٓخِرِينَ * لَمَجۡمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ ) [الواقعة:50-49].  
  • (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:47]؛
    • سواء مَن آمن أو من مَن كفر، أو مَن صدق أو مَن كذِب، (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) بمختلف ماكانوا عليه مِن أديان، مِن أفْكار، مِن اتّجاهات، مِن عقليّات، مِن نفسيّات، كلهم يُحضرون، (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا).  
  • (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ) [ النحل: 111]. 

(فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ (34))، ٱلطَّآمَّةُ: 

  • يقولون العرب: يَطُمُّ يعني يُغطّي ويُنهي ما قبله لشدّته.
  • ويقولون للطّامّة:  الداهية التي لاتُستطاع و لا تُطاق، يُقال لها: طامّة، هذه طامّة. 
  • وكانوا يقولون: طَمّ الفرس طَميماً، إذا بلغ النّهاية في الجري.
  • ويطمّون: بمعنى يَدْفِنون ويُنهون الآبار والحَفْر، يطمّها فلا يُبقى لها أثر .

كذلك (ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ): كل الأهوال التي حصلت على العباد من أوّل خلقهم إلى ذاك اليوم، تنتهي وتُطمّ بهذا الحدث. كلّ المشاكل، كلّ الأهوال، كلّ الشّدائد، تتضاءل أمام هذه الطّامة الكبرى التي تُنسِي بهولها كلّ هول، تُنسِي بشدّتها كلّ شدّة؛ فتَبقى جميع الشّدائد التي مرّت على الخلائق مطمومة بِمَا يحصل في القيامة فهي الطّامة الكبرى.

(فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ (34)) وهذا هو المُستقبل العظيم الذي جاءنا به الأنبياء عن ربّنا لنُصلح أحوالنا فيه. وجاءنا وَحْيُ مَن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وبعض مَن يدَّعي الإيمان على غير الحقيقة؛ فملأوا لنا بوحيهم وسائل النّقل والإعلام والإيصال والنّشر، أنّ مستقبل أحدكم الدّنيا، المستقبل الدّنيا! المستقبل الدّنيا! المستقبل الدّنيا! المُقبِل من حياتك، فكّر في مستقبلك، أصلح مستقبلك، عظّم مستقبلك. 

مقابل دعوة من الله والرُّسل جاءت: 

  • المستقبل القيامة. 
  • المستقبل الدار الآخرة. 
  • المستقبل حياة الأبد، انتبهوا منها وقوموا بحقها.

 جاؤوا هؤلاء قالوا: المستقبل الدنيا، المستقبل عُمري القصير، المستقبل حياتي الفانية.

ياهؤلاء! الله ورسوله ورُسله قالوا لنا: المستقبل العظيم الدار الآخرة وحياة البقاء والقيامة، وأنتم تُريدوننا ننساها ولا نستعدّ لها ونصير مِثلكم لا نؤمن إلّا بالحياة القصيرة التي نخرج عنها، شئنا أو أبينا، وعلى رغم أُنُوفنا وأنّ كُلاً مِنّا ومِنكم يُقرّ أنّه سيخرج ولكنّنا نُغالط أنفسنا، ومَن منهم لا يُقرّ أنّه سيخرج مِن هذه الحياة؟! بل مَن مِنهم؟ مَن لا يقرّ أنّه لا يَدري متى يخرج، وأنّه في كلّ يوم يُمكن أن يخرج!.

لايقدر عاقل منهم أن يُنكر هذا ولكن كأنّهم لا يؤمنون بهذا "مارأيت يقيناً أشبه بالشّكّ من الموت" يقول سيدنا علي، يتعجّب في عقول النّاس يقول؛ يقين أشبه بالشّكّ، كأنّه ايس بيقين أبداً، وهو مُتيقّن أنّه سيموت وفي كل وقت ممكن يموت؛ اليوم، بكرة، بعد بكرة، ممكن، ولكن ما كأنّه يُؤمن بهذا أصلا. 

فَليسوا بناصحين، فلِمَ نقبل كلامهم، وليسوا بمَأمونين، وليسوا بمَرسولين مِن قِبَلِ مكوّن الكون؛ فلِمَ نتخذّهم أساتذة؛ ليضلّونا! ليردّونا! لِنكون مثلهم؟! 

أساتذتنا محمد وآدم وإدريس ونوح، نِعم الأساتذة، نِعم الشّيوخ، نِعم الأدلّة، صفوة الرّبّ، خيار الخليقة عند الخالق المؤتمنون على إصلاح العباد؛ 

  • (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)، نترك هذا ونرى شَعب الدّولة الفلانية انتخب من، هذا ربّي! هذا الله انتخبه واصطفاه، تتركه وتذهب تنظر إلى الشّعب الفلاني انتخب من وتمشي وراءهُ ؟!.
  • (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج:75] اصطفاهم واجتباهم، يجب أن يحتلّ الأنبياء من عقول ومشاعر المؤمنين محلّهم، يجب أن لا يُنَازَعوا في محلّهم لأجل مُدّعين ولأجل مغترّين ولأجل أهل زخرف القول، ولا لأجل المُعظِّمين للدّنيا الرّاكعين السّاجدين لها دون الله.

ماينبغي أن يحتلّوا محلّ الأنبياء في عقولنا ولا في مشاعرنا؛ الأنبياء صفوة ربّنا، (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90]؛ لايجوز أن يحتلّ محلّهم مُفكّر ولا مُخترع ولا مُكتشف ولا صاحب قوّة ماديّة ولا صاحب قوّة عسكريّة، مايحلّ محلّ الأنبياء، ولا يجوز ولا يليق عند كلّ عاقل. 

وإذا اجتمع الخلائق في يوم الطّامة الكبرى واشتدّ بهم وضاق الخِناق تحت حرّ الشّمسِ، لم يرجعوا إلى مفكّر ولا مُخترع ولا رئيس ولا صاحب حزب ولا صاحب مجلس ولا صاحب هيئة، يرجعون إلى آدم، لم؟ لأن الموازين المُختلة، بَان خَلَلُهَا، ما عاد شيء، وإلّا سيأتون جماعة من المغترّين بعد ذلك، يقولون اتركونا نذهب للأصحاب الذين كانوا يسمّونهم كذا والذين كانوا يسمّونهم هيئة كذا، لا أحد يذهب الى هؤلاء.

انكشفت الحقائق الآن، الأمر للخالق وأصفياء الخالق -الأنبياء-؛ فالحلّ من عند الأنبياء،  نرجع إلى الأنبياء؛ 

  • الذين قد رجعوا للأنبياء في الدّنيا، هم في ظلّ العرش. 
  • لكن هؤلاء الذين رفضوا الرحوع الى الأنبياء الآن، فإنهم سيرجعون للأنبياء مضطرّين. 

يا أدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، ألا ترى ما نحن فيه: "إنَّ رَبِّي غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي". تابعوا التّوسل إلى الله بأنبيائه، "اذْهَبُوا إلى نُوحٍ"، ويأتون إلى نوح ويعتذر سيّدنا نوح: "اذْهَبُوا إلى إبْراهِيمَ". ويذهبون إلى ابراهيم ويعتذر ابراهيم: "اذْهَبُوا إلى مُوسَى"، ويعتذر موسى: "اذْهَبُوا إلى عِيسَى"، ويعتذر عيسى: "اذْهَبُوا إلى مُحَمَّدٍ"، قال نبيّنا: "فَيَأتُونِي فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا" عليك صلى الله. 

ما أجلّ مَنْزِلتك عند الله! ما أعظم قَدرك عند الله! خاب عقلٌ يؤمن بالله ماعرف قدرك عند الله "أنا لها" ما هذه القولة! ماهذا الموقف! وأين الآن المكانة للأوّلين والآخرين؟! هذه المكانة التي تسامت على مكانة أهل المكانة عند الحيّ القيّوم، أمّا هؤلاء اللّفائف، المتاع الفاني، ما بقي لأحد منهم شيء، (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) [الأعراف:195]، ادعوا الذين كنتم تُعظّمونهم، ما بقي لهم شيء، بل كُبراءهم المُتكبّرون مِنهم على صور الذّرّ في المحشر، يطأهم النّاس بأقدامهم، من هؤلاء الذين تحت الأقدام؟ هذا كان رئيس دولة كبرى، وهذا رئيس حزب كبير، وهذا كان مليونير، وهذا كان ملياردير، وهو تحت الأقدام؛ هذا الواقع الذي ستُشاهده العيون ولا بدّ أن يكون، ولا بدّ أن يكون، ولا بدّ أن يكون.

فالذين ماعرفوا مِن المستقبل إلّا الحياة القصيرة؛ اعْقلوا خيرٌ لكم، إنّما كلّفنا الله أن نريد الإنقاذ من سوء الأبد وشقاوة الأبد لنا ولكم، ونريد أن نسعد سعادة الأبد لنا ولكم، فَخَيْرٌ لكم أن ترجعوا عن غَيِّكُم هذا الذي لَعِبْتُم به على أبنائنا وبناتنا؛ فنسوا هذا الكتاب وهذا الخطاب، و اغْتَرُّوا بما أَلْقَيْتُمْ عليهم من السّراب. 

كَشَفَ الله الضُّرّ عنّا وعن أمّة سيّد الأحباب، كَمْ غشّوا من أبنائنا، كم غشوا من بناتنا بكلام فارغ لا يُساوي شيء من عند الغرغرة إلى الأبد؛ لكن هذا الكلام الباقي، هذا الدّائم، "إِنَّ الله يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِين"، اللّهمّ ارْفَعْنَا بِالقُرْآن وانْفعنا بالقرآن واجْعلنا فِي مَن تَرفعهم، يا رافع، يا خافض.

(فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ (34)) هذة ٱلطَّآمَّةُ: الحدث الهائل الذي يُنسي جميع الهائلات ويُنسى جميع الأهوال و يُنسى جميع الشّدائد لشدّته لأنّه أشدّ من كل ما مرّ، ما أبرز مافيه؟

 قال الله أمران، يارب ذاك اليوم ومُسَيِّرُهُ، قُلْ: 

  1. (يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35)). 
  2. (وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36))، الله!. 

هذه ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ في يومها. ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ: القيامة، النّفخة الثّانية. ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ، أحداثها تتابع حتّى يحصل فيها هذان الأمران العظيمان.

 (يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ) -كلّ إنسان مكلّف، يتذكر- (مَا سَعَىٰ (35))، مَا بَاشَرَ مِن العمل وما تسبّب فيه لأنّ السّعي يتناول المُباشرة، المُتَسبّب فيه؛ 

  • كلُّ ما باشرته بنفسك: من نفسك، من نيّة، من قول، من عمل، من حركة، من سكون، من أخذ، من عطاء. 
  • او تسبّبت فيه: من تزيينك للآخر، أو دفعك للآخر، أو اشارتك  للآخر؛ أو بأي وسيلة (مَا سَعَىٰ).

 (يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ) يرجع إلى ذاكرته جميع سَعْيِه، ويتذكُّره الآن، لا لمجرد عُبُوره على الذّاكرة بل يتذكّر مَغبَّة الخطر في كل ما عصى الله فيه: من قول، أو فعل، أو نيّة، أو تسبّب فيها، أو في نَشْرِها. 

  • التّذكّر الآن: يتذكّر سُوءها وقُبحها وظُلمها وخَباثتها وسُوء عاقبتها.
  • التّذكّر الآن: للحسنات والأعمال الصّالحات؛ جمالها وبهائها وحُسن عاقبتها وخيريّتها ونورانيّتها وتقريبها إلى الإله وتَسبّبها في الوصول إلى النّعيم. 

تَذكُّر من نوع خاصّ، (يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35))؛ قال تعالى في الآية الأخرى: (وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ *ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ) [النجم:41-39].

(يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35))، ما فعله في الجَلوة وما فعله في الخلوة وما أبرزه لهؤلاء وما أخفى عن هؤلاء، وما قاله في البيت وما عمله في البيت وما قاله في الشّارع وما قاله في السّيّارة وما قاله في الغُرفة وما قاله في الوِزارة وما قاله في الدّائرة الفلانية وما قاله في مقرّ الحزب وما قاله في محلّ اللّعب وما قاله في السّوق، (مَا سَعَىٰ)، كلّ الذي سعى،  كلّه يُجمع.

(يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35)) يُلقى على ذاكرته، يُلقى إليه منشورا في الصّحف، (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[ الكهف: 49]، ووجدوه مُصوّرًا. 

اليوم يُحاجِج بعضهم بعضا، يقول: ما تقرأ، انظر، انظر الصّورة عندي في الجوّال، انظر الصّورة؟! و هذا مُصوّر تصويراً واضحاً كما فعل في الدّنيا، أمام عينك، وأنت تقول لي: انظر فلان كذا، ما رأيت كيف تصرّف هذا، ما رأيت كيف تدخّل هذا، حسنا، انظر! وإذا بالصّور أمامه. 

(يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35)) نجهل عظمة السّعي، ومِقداره في هذه الحياة؛ لكن إن قبِل الله منك هذا الصيام فما أحسنه مِن سعي وسترى جزاءه الطّيب، وإن قَبِلَ منك هذا الاجتماع وهذه الجلسة وهذا الاستماع فسترى جزاء ذلك، وتتمنّى أنّ عمرك انْقضى في مثل ذلك، إذا برزت الحقائق

نحن الآن نجهل مهما أكرمنا بنورانيّة وأدركنا شيء، لكن بعد انكشاف السّتارة بعد الموت؛ تُدرك أكبر ممّا كنت تُدرك في الدّنيا: قيمة العمل، قيمة المسعى، الخروج إلى المساجد، والخروج إلى الغفلات، والخروج إلى المعاصي وإلى عند الغافلين والجاهلين، تُفرّق بينهم تفرقة كبيرة في القيامة. 

بعد ذلك في الآخرة، من عند الموت تبدأ التّفرقة وتبقى تتّضح أكثر وتتجلّى أكثر إلى موقف القيامة، ينتهي فيه الأمر (يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35))، وهذا يعضّ على يديه: (يالَيۡتَنِي لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِيلٗا) [الفرقان:27]؛ فلان ابن فلان أخذني إلى المجالس الخبيثة، ألقى عليّ الأفكار الخبيثة، منعني من الخير، حشى قلبي سوء ظنّ في الأخيار أهل زماني، أخيار زماني وصلحاء زماني، جَعَلَنِي أكره الأخيار وأحب الأشرار:

  • (لَيۡتَنِي لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِيلٗا) [الفرقان:27]. 
  • (لَّقَدۡ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَنِي) [الفرقان:29]. 

وبعد ذلك، هل ينفع شيء من هذا الكلام؟

  • (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ* قَالَ لَا تَخۡتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدۡ قَدَّمۡتُ إِلَيۡكُم بِٱلۡوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ ٱلۡقَوۡلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَا۠ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ) [ق:29-27].
  • (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)، أنتم الذين أّغْوَيْتمونا وأَخْرَجْتمونا عن دائرة الخير، (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ)، أنتم تعملون لنا جلسات وتصنعون لنا تخطيطات: (بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ إِذۡ تَأۡمُرُونَنَآ أَن نَّكۡفُرَ بِٱللَّهِ) [سبأ:31-33]. 

وبعد ذلك، هل ينفع شيء من هذا الكلام؟

  • (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ) [الأعراف:38]. 
  • (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ)، كلّ واحد يأخذ جزاءه، (وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ)، الشّدّة علينا نحن وأنتم ما تعملون أعمالنا، تفعلون مثل ما فعلنا، (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ) [الأعراف:38-39]. 
  • (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) [غافر:47] إلى آخر ما ذكر الحقّ سبحانه وتعالى

 هذا هو مستقبلنا الكبير، ونحن ومن في الأرض لن نواجه مستقبلًا أكبر من هذا،  ولا أشدّ وأعظم من هذا.

(يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) -أُظهرت وجُلِّيت- (لِمَن يَرَىٰ (36))، كلّ من تتأتّى منه الرّؤية يمكن يرى، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ) هذا الموقف الثاني مِن أعظم ما يحصل في يوم الطّامّة، تذكّر الإنسان ما سعى ، وتَبريز الجحيم لمن يرى، وإن كانت تَبرز لكلّ مَن يرى؛ ولكن بالنّسبة للغاوين، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) هذا تبريزُ مُنتظِرٍ لدخولهم، موقنين مَصِيرهم إليها، 

  • (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا) -أيقنوا- (أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا) [ الكهف:53]. 
  • لكن تبرز للمؤمنين وغيرهم ما هو هذا البُروز؛ حتّى يمرّون عليها (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريم:71]، لكن يمرّون مرور الكرام، هؤلاء الأخيار والصّالحون والمؤمنون، عند المرور على الصّراط ، ياربنا اجعلنا في زُمرة نبيّك.

إن كُنّا نتجرّأ على سؤالك هذا، إنّما مصدر جُرأتنا هذه ماعلَّمتنا مِن فضلك وأنّك إذا عفوت فلا خير مِن عفوك، وإذا تفضّلت ففضلك يفوق أمل المُؤمِّلين، وإلّا مِثلُنا كيف يسأل هذا؟! لكن من حيث أنت نسألُك، وإن علِمنا الجراءة من حيث نحن، مَن نحن حتّى نسأل هذا؟!.

إذا علمنا أنّ أعضاءنا عصتك، وقلوبنا عَصَتك، وفي اللّيل عَصَيْنا، وفي النّهار عَصَيْنا، وفي السِّرِّ عصيْنا، وفي العَلَانِيّة عَصَيْنا، فَمَن لِمِثْل هؤلاء يَسْأَل أن يكون المرور على الصّراط مع الأطهر، مع الأنور، مع الأشكر، مع الأجلّ، مع الأفضل، مع الأكمل؛ لكن مِن حيث أنت وأنّك إن شئت غَفَرت وتجاوزت وتفعل ماتريد، من حيث أنت نسألك، لا مِن حيث نحن يا ربّنا، من حيث أنت نسألك، لا من حيث نحن ياربّنا، لنا والحاضرين والسّامعين، أحبابنا أجمعين؛ 

يا الله اجعل مُرورنا على الصّراط في زُمرة المُصطفى و زُمرة الأصفياء المقرّبين، نسألك الأمن يوم الوعيد والجنّة يوم الخلود مع المقرّبين الشّهود والرّكّع السّجود، الموفين لك بالعهود، إنّك رحيم ودود وأنت تفعل ماتريد. إن أردت الواحد منّا وإن كان عاصي مُذنب يُدخل معهم دَخل، وإن أردت أي أحد يَتَخلّف، فإنه يتخلّف ماهناك حاكم غيرك، ما هناك ملِك غيرك، وحدك المالك،  وَوحدك المُهيمن، ووحدك الجبّار والأمر أمرُك؛ فنسألك برحمتك أن تُدخلنا في دائرة صفوتك وخيار عِبادك.

 (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36))،  جاء في بعض القراءات: (وَبَرَزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ)، أو (لِمَنْ تَرَى)؛ فإنّه قال الله تعالى في الآية الأخرى: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [الفرقان:12]، اللّهمّ أجرنا من النّار، اللّهمّ أجرنا من النّار، اللّهمّ أجرنا من النّار، (رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) [المؤمنون: 109]، ربّنا اغفرلنا ذنوبنا وَقِنا عذاب النّار.

 (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ): النّار المُوقدة، وإنْ كان طبقة من طبقاتها تُسمّى الجحيم؛ فقد يُراد بالجميع، النّار يقال لها:

  •  الجحيم، دركة من دركات النّار تُسمى الجحيم. 
  • وأخرى لظى
  • وأخرى تُسمّى السّعير
  • وأخرى تُسمى جهنّم، وهذه أخفّها أوّلها، وفيها عُصاة المؤمنين الذين ماتوا في قلوبهم إيمان؛ ولكن عصيان ما غفر الله له، يُعذَّبون على قدر العصيان. 
  • وأمّا ما وراءها، فإنه مَن دخل فيها لا يَخرج؛ والعياذ بالله تعالى من السّعير وأسفلها وآخرها الهاوية.

فلظى والسّعير والنّار والجحيم دركات، ولكن أسفل واحدة الهاوية، (الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء:145]، لا يُدرك لها قعرٌ؛ أجارنا الله منها.

يقول: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36))، كلّ مَن تَتَأتَّى منه الرُّؤية يرى، حتّى الحيوان، حتّى النّبات، بارزة أمامهم، ولكن لا خوفَ على الحيوانات مَن دخول النّار، إنّما يخافها المُكلّفون مِن الإنس والجنّ الذين بلغتهم الدّعوة فاتّبعوا أهواءهم.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ) فكيف يكون حال النّاس يارب؟ قال: هذان القِسْمَان، (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:105]  فريقٌ في الجنة وفريق في السّعير، يقول : من هؤلاء السعداء أهل الجنة؟ ومن الأشقياء أهل النار؟ قال: خذوا العلامات، ربّ العالمين:

  • (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَءَاثَرَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (38))؛ هؤلاء أهل الشّقاوة، (فَإِنَّ ٱلۡجَحِيمَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ (39))، المأوى: هو المَرجِع والمنزل الذي يَستقِرُّ فيه الجحيم، النّار.
  • (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ)، طَغَىٰ: دُعِيَ إلى الله فَأَبَى، عَرَفَ الله وتَكَبَّرْ، عَرَفَ الرَّسُولَ وخَالَفَ وعَصَى ولَمْ يُبَالِي.
  • (فأَمَّا مَن طَغَىٰ (37)) -جاوز حدّه- (وَءَاثَرَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (38))، كما قُلْنَا أَبوابهم منفوخة علينا الدّنيا! الدّنيا! هي مستقبلهم، وهي عظمتهم، انتبهوا منها، ونحن نحفظها لكم، ونحن نساعدكم عليها، إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

إلى أن يأتيهم رأس من رؤوسه -الدّجّال- ويقول: تفضّل، عندي الخبز، وعندي أنزّل المطر، وعندي أنزّل الشّجر، ولا بيده شئ إلا فتنة يَفتن الله العباد بها، وتنتهي أيّامه وعيسى ابن مريم يَقتله وكلامه فارغ و مات ولكن فتنة كبيرة، وهم اليوم يُدَعُّون النّاس بالفِتَن بهذه الأشياء.

رأينا -سبحان الله- في سِيَرِ الأنبياء، ما جاء فِكر أنّه المُعاندين والمُضادّين والمُخالفين والمُعاندين لله ولأنبيائه، أن يُفكَّر في أنّهم يَحجزوا عليهم الميرة أو الأكل أو هذا شيء الذي بسطه الله للنّاس كلّهم، ما فكروا في هذا، ولا ارْتَضَوْا. 

حَبَسَ الميرة على آل مكة المُشركين، الكفّار، ثُمامة بن أُثال، فلمّا تضايق بهم الأمر، صعُب عليهم المعيشة، كتبوا إلى النّبيّ وهم يُحاربونه، بينه وبينهم حرب، كَتَبُوا قالوا: صَاحِبُكَ مَنَعَ المِيرة علينا وأنت بُعثِت بِصِلَةِ الرّحِم وهؤلاء أرحامك في مكة ما وَجَدوا الطّعام؛ كتب إلى ثمامة بن أثال لا تأخّر عليهم مِيرة، أتركهم، ﷺ أخذ أسراهم مِن المُقاتلين منهم، فقال لأصحابه: أحسنوا إليهم؛ فكانوا يَخُصُّونهم بأحسن الطّعام، الذي يقع في أيديهم يُعطونهم منه. 

يحكي لنا القصة بعضهم يقول بعد ذلك أَسْلَم، قال: أكثر ماعندهم يوجد تمر، أحيانا يوجد الخبز يفرحون به، قال: فإذا وقع في يد أحدهم كِسرة، دفعها إليّ، قال: حتّى استحييت وهو أسير، مُقاتل، أسير استحيى من هذه المُعاملة، فجئت أردّ إليهم كِسرة الخبز فيَرُدّونها إليّ مايمسها أحدهم؛ لأنّهم سمعوا نبيّهم يقول: اسْتَوْصُوا بالأسرى خيرا، ﷺ.

اليوم سياسات التّقدم والتّطور كلّها والحضارات، الحِصار على هذا، والقَتل على هذا، نحن هَوِينا، هَوِينَا، هَوِينَا، نَزَلْنَا، مَاعَرَفْنَا رَكْب الأنبياء وَلَا دَرْبَهُم، كانوا أشرف وأعظم، وهم يفعلون هذا في مَن يريدون، والنّاس بينهم البين شغلوهم بهذا، أنت اقطع لهذا وأنت هات من هذا؛ واتَقُوا بَيْنَكُم البَيْن، ومَن أَبَى أن يُحسِن الطّاعة للأنبياء فليتّبِع الأغبياء؛ فليكن عُرضة لأتفَهِ النّاس، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

(وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36) فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37)) -جاوز حدّه- (وَءَاثَرَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (38)) دُّنۡيَا! دُّنۡيَا! دُّنۡيَا!.. أنا أعلم بنفسي أنّه لو طال عُمري كم بأعمّر، اليوم لو قالوا لنا واحد جاوز المائة، عندنا في البلدة والقرية الفلانية أحد وصل مائة وعشرين، لما نقول هكذا؟ لأننا نعرف أننا نموت قبل. ما معنى بقى في الحياة، نعلمه،  وإذا اجْتمعنا في مَجمع أكثرنا كبار السنّ أو الصغار؟ الشباب الصّغار أكثر لما ؟ لأن الحاصد يحصد النّاس، يموتون، ما أحد يبقى في الحياة، الله! الله! الله! الله!.

مع أنّه ليس الموت للكبير أو الصّغير لكن "أَعْمَاُر أُمَّتِي مَا بَيْنَ السّتّين والسّبعين والأَقَلّ مَن يَجُوز ذَلِك"، قليل الذي يتجاوز هذا، انظر كلّ قرية، كلّ بلدة، كلّ دولة، انظر، الأقلّ الذين يجاوزه أو الأكثر ؟ قليل الذين يتجاوزه، الأكثر قبل قبل قبل، يخرجون من الدّنيا قبل، ومِن شأن هذا العمر القصير شغّلتمونا عن ربّنا، وعن نبيِّنا، وعن الحياة المُقبلة الكبيرة، تَبْني لي مصنع، تعطي لنا سيّارة وأنسى حياتي الكبيرة وأنسى ربّي، عيب عليك! ما يُفيدنا ماعندك هذا، اتْرك صِلَتي بالقويّ قويةّ، اتْرك صِلَتي بالدّائم دائمة، ما أبيعها مِن شأن تعرض عليّ متاع سنة، سنتين، ثلاث سنين، يمكن أنت بِنَفسك تَنْقَلِب عليّ،  قل لي، ما رأت عيوننا؟ يُدفع بالواحد يُعطى يُعطى وبعد ذلك الذي كان يُعطيه هو الذي يّنقلب عليه، ما رأينا هذا على مستوى الأفراد، على مستوى الجماعات، على مستوى الدّول، ما رأيناه! ما سمِعناه!.

هذا شأن الحياة الدّنيا، اتْرُك لك صلة بواحد ما يَنقلب ولا يَتغير ولا يَتبدّل، جلّ جلاله! جلّ جلاله! جلّ جلاله! تسعد بإِقباله، تتلذّذ بِوِصاله، حيّ قيّوم، لا تأخذه سِنة وَلَا نَوم، أرسل لك محمّد، وأنزل لك قرآن، وجاء لك برمضان ليُقرّبك إليه، ليُحيِيَ ما بينك وبينه، و لِيُنقذك مِن كلّ ما يَعترِضُك، ومِن كلّ مَن يضحك عليك ويلعب عليك، ماتقبل هديّة ربّك! ماتقبل فَضل ربّك الذي جاء إليك؛ اللّهمّ بارك لنا في رمضان، بارك لنا في الإسلام، بارك لنا في الإيمان، بارك لنا في الإحسان.

(يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35) وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36) فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَءَاثَرَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (38))، نسألك يا مُنزل الكتاب، أن تَنظر إلى قلوب أمّة نبيّك محمّد والذين انْصَرفوا إلى تعظيم الدّنيا، حتّى ألهتهم عن الآخرة، أصلِحْ قُلُوبنا وقُلُوبهم، يارب!.

حتّى لايلعب بهم أعدائك، ولا يغرّهم الكفّار والفجّار مِن الإنس والجنّ، و يُصغوا إلى قولك وقول نبيّك المُختار، ياربّ! هذه قلوب مَرِضت فينا، في رجال ونساء كثير، فداوِها وعافها وأَصلحها ونوّرها، ياربّ! حتّى لايبقى فينا مَن يُؤثر الحياة الدّنيا ولا يُؤثر شيئاً عليك، كائنًا ما كان، فإنّ فيك العِوض عن كلّ شيء وليس في شيءٍ عِوضاً عنك، يا مَن يَكفي من كلّ شيء ولا يَكفي منه شيء، أنت حسبنا ونعم الوكيل، اجْعل قلوبنا بك متعلّقة، للقائك متشوّقة، واجْعلها معك صادقة، يا أرحم الراحمين!

(وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ..(40))

  • عَلِم أنّ القول قول الله، وأنّ الحكم حكم الله، وأنّ الأمر أمر الله وأنّ المرجع إلى الله، وأنّه لن يكون إلّا ما أراده الله، (خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ)
  • وعَلِم أنّه سَيَقِف بين يدي هذا الإله ويقوم مقاما لابدّ له منه، "ما منكم من أحدٍ إلا و سيُكلِّمُه ربّه ، ليس بينه وبينه تَرجمانُ"، قال نبينا، "فينظرُ أيْمنَ منه ، فلا يرى إلا ما قدَّم ، وينظرُ أشأَمَ منه ، فلا يرى إلا ما قدَّم ، وينظرُ تلقاء وجهه ، فلا يرى إلّا النَّارَ تِلقاءَ وجهِه ، فاتَّقوا النَّارَ ، ولو بشِقِّ تمرةٍ"؛ يعني اجعلوا لكم مُعاملة مع هذا الإله تعود عليكم بالخير.

تعجّب بعض المسافرين مِن الأخيار ووجد جماعة من القُطّاع في الطّريق، وأخذوا الذي معهم من المتاع وفيه بعض كتب له وهو من أهل العلم؛ فقال لهم: ما سَتنتفعون من هذه الكتب؟! ردّوها إليّ، -يُخَاطبهم- قالوا: تذهب إلى رئيسنا، القائد الذي يرجعون إليه. جاء عندهم و عملوا القهوة، قدّموا القهوة للقائد، قال: لا، أنا صائم -و تسرق وفوق ذلك تصوم- قال: يا هذا! أغوانا الشّيطان بأنفسنا  وحاجتنا، ما عندنا شيء، وقعنا في هذه البليّة، فما نُقطّع الحبال كلّها بيننا وبينه، نترك شيء بيننا وبينه صلة، تعجّب، قال: أنا جيئتك لأجل الكتب، قال: كتبك خذها وأردّها لك، وأنت لا تترك علمك في الكُتُب، اذهب تَحفَّظ، قال: والله نصيحة منك سآخذها بعين الاعتبار، وذهب. 

بعد سنوات، وجد واحد عند الكعبة قال: يبكي يبكي يبكي ويتأمّل في وجهه، هذا مثل رئيس القطّاع، -هؤلاء الذين كانوا…- يتأمّل، جاء عنده يكلّمه، قال له: أنت فلان، قال: نعم؛ قال: الله! تُبْت؟ قال: الحمد لله تُبنا، والذي قَدَرنا على إرجاع الحقوق أرجعناه، والذي ماقدرنا، نبكي إلى ربّي، يؤدي حقوق الخلق ولا يفضحني، عجيب! قال: ما سبب توبتك؟

  • قال: ذاك الحبل الذي تركته بيننا وبينه، رجع عليّ، أنا قلت لك تركت بيني وبينه صِلة، أنت جئت وأنا صائم، تعجّبت منّي وأنا صائم، كنّا أيّام قطع الطريق، ولكن ما نترك صوم، ما نترك صلاة،  نصوم ونصلي، ما نقطّع الحبال كلّها نهائيا.
  •  قال: انظر زيادة على ذلك، وأنا تُبت ونَدمت وتوّبت الجماعة اللي معي كلّهم، ورجعت إلى الله، لا تَقُلْ لا يَهلك على الله إلّا هالك، من شَرد على الله شُراد البعير النّادّ على أهله، وأمّا مَن تقرّب إلى هذا الرّبّ ما أَقْرَبه وما أكرمه جلّ جلاله، اللّهمّ أجِرنا مِن عذابك وأعِذْنا مِن غَضَبك وعِقَابِك.

(وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ (40))، خاف عظمة الإله الذي سَيَقف بين يديه، ولحظة الوُقوف بين يديِ الله حسن استشعارها واستحضارها والحلّ الذي يكفيك شرّ البلايا والشّهوات والنّفوس والأهواء كلها؛ لكن استحضر واستشعر ساعة الوُقوف بين يدي الله.

المشكلة هي غَيْبَة هذا عن ذهنك، الشّيخ الشّعراوي عليه رحمة الله يقول: المُشكلة كلّها أَنْ يَغِيب عن الذّهن حقيقة الأمر المُقبِل؛ فعند هذا الغَيَاب، ينطلق الإنسان فيما لا ينبغي، وقال: سأضرب لكم مَثَلًا، لو أنّ شاباً غلبت عليه شهواته فتُجمِّعت له شهواته كلّها في غرفة، وقلنا له: ادْخل هذه الغرفة فيها أنواع ما تشتهي مِن الشّهوات، ولكن اسْمع؛ الليلة ستقعد فيها، وفي اليوم الثاني ستخرج الى غرفة أخرى مجهّزة بأحدث وسائل التّعذيب، ادْخُل لها، أولا خذ نَهْمَتَك وشهوتك طول الليل، وغدًا انظر هنا. 

وهو مُتَيقِّن هذه هنا وهذه هنا، الأشياء التي في الغرفة الثانية يُحبّها ويهواها، لكن كلّما أراد أن يدخل يتذكّر هذه؛ لمّا يحضر في قلبه ذكرهذه يمتنع؛ يقول: لا، لا، لا، ما أريد، لم لا تريد؟! الأشياء التي تُحبّها كلّها موجودة، يقول: لا، لا، ما أريد، لأنّه حضر في ذهنه ما المُقابل الذي سيحصل عليه في اليوم الثاني، 

قال: مُصيبة النّاس المؤمنين والمسلمين، ما الذي سيحصل في ذاك اليوم، لكن يَنْسُون، فلو استحضروا ما يُقدِّمون على هذه الذّنوب أو على هذه المعاصي ولكن يَغيب عن ذهنهم، (وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ)، إذا أراد أن يُذنب أو يَعصي، تذكُّر وقوفه بين يديه؛ فانتهى.

(خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ (40)):

  • ذاك طغى وهذا خاف مقام ربه. 
  • وذاك آثر الحياة الدنيا، وهذا نهى النّفس عن الهوى. 

انظر الفرق بين الاثنين؛ ولكن النتيجة فرق كبير: (فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ (41))، هذا مُستقرّك ومَرجعك ومأواك جنّةُ الله، "ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ"؛ (فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ).

اللّهمّ اجْعلنا مِن أهل الجنّة، ياربّ! نصف رمضان مضى علينا، نسألك في باقيه أن تجعل في هذه القلوب مِن نور خوف مَقامك ما أنت أهله، ياأرحم الرحمين. 

يا الله! لا تُبقي في قلبٍ مِن قلوبنا أو قُلوب السّامعين معنا وقلوب الحاضرنا معنا والسّامعين لنا، لا تُبقي في قلبٍ شيء أخوف منك، فإنّه لا شيء أخوف منك، وكلّ شيء في قَهْرك، وتحت حُكمك والخوف منك أنت، فاجعلنا مِمَن يخاف مقام ربّه، ووفِّقنا لأن نَنْهي الأنفس عن أهوائها ونخرج من رمضان ونحن مالكين لأهْوائنا. 

يارب! يارب! يارب! ياربّنا! ياربّنا، سألناك ذلك فاستجب لنا، واجعلنا مِن مَن (خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ (40))، واجْعل الجنّة مأوانا، ومأوى آبائنا وأمّهاتنا، ومأوى أهلِينا وأولادنا، ومأوى طلّابنا وأصحابنا، يا الله!

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

17 رَمضان 1438

تاريخ النشر الميلادي

12 يونيو 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام