تفسير سورة الملك -1- من أول السورة

تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الملك، من قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، الآية: 1
نص الدرس مكتوب:
﷽
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2))
الحمد لله، مُكرِمنا بالقُرآن الكَريم والذِّكر الحَكيم والكِتاب العَظيم والتنْزيل الفَخيم على قَلبِ عَبده وحَبيبهِ الرَّؤوف الرَّحيم، سيدنا محمد المُصطَفى صلى الله وَسَلَّمَ وباركَ وكَرَّمَ، عليه أفضلَ الصلاة وأزكى التسليم، وعلى آله وصحبه أهل المَجد الصميم وعلى من تَبِعَهم بإحسان من كلّ ذي قَلبٍ سَليم، وعلى آبائِه وإخوانه من الأنبياء والمُرسَلينَ ساداتِ أهلِ التفضيلِ والتمجيدِ والتكريم، وعلى آلهم وصَحبِهم والمَلائِكة المُقَرَبين، وجَميعِ عبادِ الله الصالحينَ أهل الصراط المستقيم، وعلينا مَعَهم وفيهم إنه أكرمُ كريمٍ وأرحمُ رَحيم.
وبَعدُ،،،
فإننا في فَضلِ الله عَلينا في تَأمل تَعليمهِ وتَنزيلهِ ووحيهِ وكتابهِ الذي أنزلهُ على قَلبِ نبيهِ محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصَحبهِ وسَلَّمَ-، في هذه الأيام الزاهرة التي هي بالمِنَنِ والمواهِبِ زاخِرةَ، وصلنا إلى سورة: الملك، سورة (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ…(1)) -جلّ جلاله- وهي السورة العَظيمة، ثلاثونَ آية:
- جاءَتنا الأحاديث عن فَضلِها وشأنها: وأنّها المانعة من عذاب القبر، والمُنجِية من عذاب القَبر،
- وأنّها التي تُجادِلُ عن صاحِبها أي: من كان يَقرَأها.
- وأن نَبي الله قال فيها: وَدِدّتُ لو أنّها في قَلبِ كُلِ مُؤمن.
ثلاثونَ آية، سورة من كتاب الله ثلاثون آية، سورَةُ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، كان يَحرِصُ صُلحاءُ الأُمة أن لا يَناموا في شَيء من لَياليّهم حتى يَقرَأوا سورة (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ، ومنهم من يُرَتِبها في سُنّة العِشاء البَعدِية.
سورة (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، جاءَ في الحديثِ: "أن رَجُلاً من الصحابة ضَرَبَ خَيّمَةً لهُ فُستاطاً في الطريقِ على قَبر ولم يَكُن يَظُن أن هُناك قَبر، فلما كان بالليل قال: سَمِعتُ إنساناً يَقرأ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) إلى أن خَتَمَ السورة يَتأمل يجد الصوت من تحت الأرض، فَجاءَ إلى النبيﷺ وأَخبَره، وقال ضَرَبتُ فُستاطي على قَبرٍ، لم أَكُن أحسب أنه قَبر، فَسَمِعت، قال ﷺ: هي المُنجِية، كان يَقرأ بِها فَهيَ تُنجيه، فهو يتنعّمُ بقراءتها في قَبره كما كان يَقرأها في الدُّنيا".
فَنِعمَ الرَّفيق سورة تَبارك، ما أعظمها من سورة وما أَجلَّ قَدرها عِندَ الله، فيها حَقائِقُ التوحيد وحقائقُ حِكَمُ الخَلقِ والإيجاد وحقائقُ المصيرِ والمَآلِ والمَعاد؛ سورة تبارك.
- وقد جاءَ عن ابن عباسٍ أنه قال لِبَعضِ التابعين:" ألا أَمنَحُك وأُعطيكَ عطية تَفرَحُ بها، قال: بلى، قال: سورة تبارك -الملك-، اقرأها وعَلِمها أهلَك وأبنائَك وبناتك صِغارُهم وكِبارُهم؛ فإنها المُنجية من عذابِ القَبر وإنها المُجادِلة عن صاحِبها يوم القِيامة".
- وهكذا، وأن رسولَ الله قال: "إني ودِدّتُ أنها في قَلبِ كُلِ إنسانٍ مُسلم"، "وَدِدّتُ أنها في قَلبِ كُلِ إنسانٍ مُسلم" يَحفَظ سورة (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، فيتأكد على المُؤمن حِفظَها ومُلازَمَتِها بِقِراءتِها كُل لَيلة.
- وجاءَ أيضاً في الحديث:" أنه وُضِعَ رَجُلٌ في قبره فأتاهُ بَعض مَلائِكَةِ العَذاب، ولم يَكُن يَحفظُ إلا سورة تبارك، وكانَ يَقومُ بِها ويَقرَأُها فاستَقبَلَتهُ سورة تبارك، قالت: إني في جَوفه وإنه كان يَقوم بي، قال: فقال لها المَلَكُ: أنتِ كَريمَةٌ على الله ولا أُريدُ مَسائَتَكِ، ولكن أنا عَبد، وهذا عَبد كلنا عبيد ، فإن أَرَدتي ذلك، فاذهبي إلى الرَّب واشفعي لهُ عِنده، إنما أنا عبد، فَطارَت السورة وخاطَبَت الرَّب فيه، وقالت أنا سورةٌ من كِتابِك، وهذا كان يَتلوني فَشَّفعني فيه، فقال: قد شَفّعتُكِ فيه، فعادت إلى المَلائكة، فقالت: اذهب فقد شَفَّعَني الله فيه"، وجاءَ في روايَةٍ أُخرى: "شَفَعت لِرَجُلٍ في قَبرِه".
- وجاء في روايةٍ ثالِثة: "أنه أتاه من قِبَل رَأسه فَجاءتهُ تبارك، وجاء المَلَك من جِهَة رِجليه فجاءتهُ تبارك، فَجاءَ من قِبَل يمينه فجاءته تبارك، وجاء من قِبَل يَساره فجاءته تبارك، ولم تَزَل تُحاج عَنه وتُدافِع، حتى شَفّعها الله فيه".
- ويَستأَنسُ كَثيرٌ من أَهلِ تَعبيرِ الرؤى بِأَخذِ الآية المُطابِقة لليوم من الشهر، أيامُ الشهرِ ثلاثين فإذا رأى رُؤيا نَظَرَ تاريخ اليوم ورقم الآية في السورة فَيَجدُ مُطابقةً بين الرُّؤيا وإشارة في معنى الرُّؤيا وما في الآية الكريمة.
إفتتحها الحَق -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- بقوله مُنَزِّهاً مُقَدِّساً لِعَظمته: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، (تَبَارَكَ):
- المعنى الأول وهو الأشهر(تَبَارَكَ): تَعاظَمَ وتَقَدّسَ وَتَنَزّهَ وتَعالى (تَبَارَكَ)، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) عَظُمَ وعَلا وجَلاّ أن يُشابِه كائِناً أو مَخلوقاً أو يُشابِهَهُ مَخلوق وعن كُلِ نَقصٍ وعَن كُلِ ما لا يَليقُ بِجَلالهِ وعَظَمَتهِ وكِبريائه (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).
- والمعنى الثاني: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) أنشأ البَركة ووَهبَ البركة وأعطى البَرَكة لِمَن شاء،(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) -جَلَّ جَلاله- وهو خالقُ البَرَكة وبِيَدهِ أمرُ البَرَكةِ في أَي شَيء.
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ…(1)) عِبارة يُعَبرُ بِها عن المُتَمَكن القَوي القادر على الشيء (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) كما يَقول بِيَدِ فُلان، الأمر يعني: مُنقاد خاضِع له، مُتَمَكّن فيه تماماً، وأمرُ البَلدَةِ بِيَد فُلان، لكن المُلكُ كُلهُ بِيَد الله،
- أما المُلك الحَقيقي: فَلَه وحدهُ لا شريكَ له فيه،
- أما المُلك الصوري والمَجازي والمُعطى من قِبَله لمن يشاء: فكله بيده وفي قبضته وتحت حُكمه وبأمرِه، فَمِنهُ مِلك الأشياء ومُلكُ أنواع الأمتعة ومُلكُ المال وملك الحُكُم والنفوذُ في الناس إلى غير ذلك من المُلك الصورِيّ الجُزئِي المُعطى من قِبَلِهِ هو -جَلَّ جَلاله-.
كُله بِيَده لَم يَخرج منه قليل ولا كثير عن قَبضته وحُكمِه وأمرِهِ؛ (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ) [آل عمران:26]. ولو أن يُمَلِّكَكَ خاتَم لا تَقدِر على مُلكِه إلا بَأمره وإذا نَزَعَهُ مِنكَ يَنتَزِع ولا تَستَطيع أن تَملُكه ولا بِكل قُدرَتِك، ومَطعوماتِك ومَشروباتك وألبِسَتك؛ المُلك بِيَد واحِد، تَبارك تعاظم وتعالى الذي بيده الملك، ثم ينتهي هذا المُلك إلى مُلكٍ أعلى وأعظم من المُلكِ للأمتِعة، والمُلك للحُكمِ، والمُلكِ للمادة بأصنافها، إلى مُلكِ الإنسانِ لِوجهَتِهِ وأعمالِه وأعضائه، حتى يُحسِن التصرف فيها بأمر رَبه -جَلَّ جَلاله- فلا يَصرِفها إلا في الطاعة؛ هذا مُلك، وشأنه أعلى من شأنِ أنواعِ المُلك المادي الآخر، هذا مُلك وحالهُ عَظيم، وأصحابُ هذا المُلك قالوا بِلِسانِ الحَق:
نَحنُ المُلوك حَقيقةً لا غَيرَنا *** والله لا مَلِكٌ سِوانا يوجَدُ.
من لم يَملِك أعضاءُه فَيَصرِفها في طاعة الله، من لم يَملِك صِدقَ الوِجهَه إلى الله والاستِقامة على ما يُحِبه؛ لَيسَ بِمَلِك. المُلك الصوري:
- قد يَنتَهي ويُسمى صاحِبهُ مَلِك ومالِك بِأدنى شَيء،
- وقد يَنتَهي إلى أن يوجد عِنده مَسكَن وما يَحتاجه من المَلبَس والمَطعَم المَشرب وخادِم يَخدُمه، يقال: مَلِك،
حتى قال سيدنا موسى لِقَومه (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا…) [المائدة:20]، من مُلوك يعني؟! اليس هُم تَحتَ قَهر فِرعَون! مُلوك!أن الذي يَملِك قوته ومَسكَنه يقال: مَلِك، يَقال له: مَلِك، فهذا مُمكن يُسمى مالِك ومَلِك بأتفه الأشياء، ومن مَلَك قرية ومن مَلَك قَريَتين ومن مَلَك مَسافة بين هذه الدول؛ نحن اليوم نعيش في العالم، كم دُول فيه؟ كل واحدة تَدعي المُلك، وما في واحد يَملِك الأرض كُلها منهم؟! والدول الكُبرى والدول الصغرى، وكلها تَحتَ قَهر من بِيَدِه المُلك.. من بِيَدِه المُلك -جَلَّ جَلاله-.
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ…(1)) ولكن وراء هذا المُلك: المُلك الذي ذَكَرنا، والمُلك الذي ذَكَرنا مِن أن يُمِدَّ الله الإنسانَ في طاقَتِهِ العَقلية والرّوحية بأنوارِ تَوفيقٍ يَملِكُ فيها حَركاتِ أعْضائه وخَواطِره، فَيُقيمُها على ما يُحِب رَبهُ، مُلك؛ مُثمر لِمُلكٍ سَمّاهُ الكَبيرُ كَبيراً وهو النعيم في الجنّة، وكل هذا مُلكٌ لا مُقارنة ولا مُناسبة بَينه وبين المُلك الذي يَتَنازَع عليه أكثر بَني آدم، من أيامِ حَياة أبينا آدم، وقد قابيل داخَلَتهُ العِلَل وقام على هذا المُلك يُنازِع: (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27]، قال لماذا تَكون الزوجة لك أحسن من الزوجة لي؟ ولماذا أنت تتميز بالشّرف دوني، ويُقبَل مِنك ولايُقبَل مِني؟ وراح وراء هذا المُلك الكاذِب الفارِغ، وقَتَل أَخاه واكتَسَب إثم: أن كُل نَفس تُقتَل ظُلماً إلى يوم القيامة عَلَيْهِ مِثْلِ إِثْمَهَا -مسكين!.. مسكين هذا!- بَلا نَفسُه بِبَلِيَّة؛ كُلّه في طَلَب المُلك الحَقير، هذا لا يُساوي شَيء، المُلك الحَقير أمامَ ما ذَكَرنا من مُلك المُؤمن: لأعضائه وَوِجهاته ونِياته يَمْلُكها فَيَصرِفُها في مَرْضات ربّه، هذا مُثمرٌ لذاك المُلك العَجيب العَظيم في الدار الآخرة: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20].
أَيْقِنْ أنه لا يمكن المُقارنة بين كلّ المُلك الذي يتنازعون عليه من أيام آدم إلى الدول الموجودة عِندنا وأكثرها مُتطاوِلة و مُتنازِعة حتى مُتسالِمة في حُدودٍ، وبينها عُهود وصداقة مُتربّصة كيف تزيد على هذه؟ ولو أمكن أن تأخذ ما تحت يد هذه لَعَمِلَت وَوَجَدَت لها مُبَرِّر؛ هذا هو المُلك، أي مُلك هذا؟! هذا الذي الناس اليوم فيه، هذا الذي سَكِروا وراءه، هذا الذي ضَيَّعوا دينهم من أجله؟!، هذا الذي نسوا ربهم من أجلِه؟!، حقير.. قَصير.. زائِل، من وَقعَ في قَبضتُه هَلك هلاك الأبد.
لكن نحن نتحدّث عن مُلك آخر تتعشّقه القُلوب الطاهِرات، وكلّ من تَحَكَّم العقل فيه مع الفِطْرة السليمة؛ عَشِقَ هذا المُلك، الذي الواسطة إليه والوسيلة إليه التقوى.. التقوى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق:31]؛
تقوى إلٰه العالمين فإنّها *** عِزٌ وحِرْزٌ في الدُنا والمرْجعِ
وكان يقول بعض صُلَحاء الأُمّة ويتَحدّث بِنعِمة ربِّه: مَلَكتُ أعضائي السبعة ما صَرَفتُها إلا في طاعة؛ هذا هو المُلك.. هذا هو المُلك، أصحابُ هذا المُلك يَنزِلون مَنازِل كَرامة عِند من بِيَدِه المُلك حتى يصير أحدُهم لو أقسمَ على من بيده المُلك لأبرَّ قَسَمَه؛
- إن سَأله أعطاه ،
- وإن دَعاه استجابَ له،
- وإن استعاذهُ من شَيء أعاذه؛
هذا هو المُلك؛ قُربٌ ممن بيده المُلك، هذا هو المُلك مُلكٌ يَبقى ويَدوم بِبَقاء ودَوام مَن بيده المُلك، ولا يدوم مُلكٌ لِغَيره في هذا العالم.
والمُلك الكبير الذي يُديمُهُ الله الدائم لأهل الجنة بِيَدِهِ: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ..(1)) لا مَلِكَ في الحقيقة إلا هو، وكُلُّ المُلك الحقير الزائل الصوري، والمُلك الأرفَع الأشرف الذي يَبقى خَيره بإبقاء الله بِيَده؛ إذاً فلا مُلكَ إلا له، نعم وعِزَتِه وجَلالِه. أَوهامُ الناس؛ ظُنونُ الناس تَلعَب بِهِم تلعب بهم ما داموا في هذه الحياة الدنيا ثم تَنكَشِف السِتارة ويَعلَموا هذه الحَقيقة، كُلهم يَعلَمون والحَقُ بنفسه يُنادي بَعد النفخة الأولى: (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر:16]، يعني يا أرباب الأوهام ذَهَب وَهمُكُم؟! كان أنبيائي يُخاطِبونَكُم، وأوليائي يَدُلونَكُم ما صَدقتُموهم إلى اليوم؟! راح الوَهم؟! (لِّمَنِ الْمُلْكُ)؟ (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ في أحد يظهر من الأمم المُتحدة؟! في أحد يظهر من الدول الكبرى؟!
(لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؛ لا أحد منهم! لا أحد منهم ياجماعة؛ ماتوا، فلماذا تعيش على الوهم؟ العشرة الأواخر من رمضان اجعلها في يقين، إبعد من الأوهام، المُلكُ بِيَدِ واحد: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) واقرأ كل ليلة سُورَةَ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) وَنَجِّ نَفْسَكْ مِنَ الْهُلْكُ بِالْخُضُوعِ لِمَن بِيَدِهِ الْمُلْكُ.
- (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) هل لغيره هذا؟ (عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) لم يُعَبّر بِمُجَرَّد لَفظ قادِر، (قَدِيرٌ) قَوي القُدرة، لا يَتَأَبّى عليه شيء، لا يَثقُل عليه شَيء، لا يَصعُب عليه شيء.
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) اللهم بِقُدرَتِكَ على كُلِّ شيء اغفر لنا كلّ شيء، وأصلح لنا كلّ شيء، ولا تسألنا عن شيء، ولا تُعَذِّبنا على شيء، يا قادِر على كُلّ شيء، يا عالماً بكلّ شيء، يا مُحيطاً بكلّ شيء، يا خالقاً لكلّ شيء.
- (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) إذا أكثرتَ من تِلاوَتِها فَتَح الله لَكَ فيها مَعاني، ثُمَّ صارَت روحكَ تَتَلَقّاها كَأنّكَ تَسمعُها من السند الذي تَلَقّيتَ عنه هذه السورة، ثم كأنّك تسمعه من الرعيل الأول، ثم يُنازِلُ روحَك مُنازله كأنّكَ تَسمَعهُ مِن فَم المُبَلِّغ، من أُنزِلَت عليه، وإن دُمتَ مُتَقّياً مُتَنَقّياً صادِقاً بِوِجهَةٍ بالِغة؛ ارتقيت فكأنّك تراه وكأنّك تَسمَعه من مُنزِلِه -تَعالى في علاه- .
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ ..(1)) لكن اسلك الطريق لذلك، تَصفّى وتَنقّى واصدُق، وأكثر التِلاوة وتأمّل المعنى واحضر وَدُم؛ تَرقى، فإنّك تَرقى رُقيّاً يَتَمَثَّلُ ويُتَرجَمُ في رُقيّ الآخرة، يُقالُ لحامِل القُرآن؛ اقرأ؟! بل يُقال له: "اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا"، ماذا يقصد "كما كنت تُرتل في الدنيا"؟ يعني كان حالك مع القُرآن طَيب في الدنيا تُحسن الترتيل، الآن يَنكَشف لك سِرُّ صِلَتك بالقُرآن، لا يَقرأ آية إلا ارتقى دَرَجة، وما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، "فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها"، فإن كان حَسَن الصِلة بالقُرآن كُلّه فما عاد ينْتهي إلا في الفِردوس الأعلى.
كلما قرأ آية طَلع -ارتقى- درجة.. كلما قرأ آية طَلع -ارتقى- درجة، هذه ليست مصاعِد كهربائية، ولا على طاقة شمسية، الشمس كُلّها قَد كُوّرت، ما هذه المصاعد هذه؟! ماهذه المعارِج؟! (مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ) [المعارج:3]، هذه معارج يعرجون عليها. بالآية يَرتَقي مِقدار خمسمائة سنة، بالآية! هل في مصعد في الدنيا مثله؟! مثل ناطحات السحاب، ناطحات السحاب يصعد إلى كم؟! ويصل إلى كم؟ وكم المسافة؟ مازال في الغلاف الجوي، أين مسافة خمسمائة سنة بِمُجَرد ما يقرأ الآية يصعد؟ ما المِعراج هذا! ما المصعد هذا! اترك الكهرباء، هذه مصاعد ربانية رحمانية؛ "اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها". رَبَطنا الله بالقرآن وجعلنا من أهله، ويافوز من قام بحقّه وحفظه بإخلاصٍ وصِدق، وارتبط بمعانيه.
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ..(2)) -جَلَّ جَلاله- كل شَيءٍ كانَ ميت غير الله تعالى أي: لم يكن موجوداً اصلاً، قال نَبينا كما جاء في صحيح البخاري: "كانَ اللَّهُ ولَمْ يَكُنْ شَيءٌ غَيْرُهُ" كان الله ولم يكن شيء معه، ثم حَيَّت فحياتُها بوجودها؛ فالوجود أول منازل الحياة، أول مراتب ومعاني الحياة ولو كان لجماد، فرق بينه وبين المَعدوم فرق؛ لكنه لضعف هذه الرتبة في الحياة ما تسمى حياة في أعرافِ الناسِ الذين يَعيشون على ظهر الارض، لكن فيها نفسها بعضُ تأثُراتٍ تَطرأ عليها -الجمادات- فإذا قَويَ الأثر، يُقال له: حَي، يُعَبِرون بالحي، فتقول: "أرض مَيتة ، أرض حية"، وامتد هذا التَعبير إلى قَولهم البحر الميت لأنه فَقَدَ أنواعاً من خَصائص البحار الأخرى وحيويتها؛ فَسُمّي بِبَحر مَيت، ولا يعيش فيه شيء من الحيوانات التي خلقها الله تعالى؛ فَنُسِبَ إلى الموت وهو بحر- طيب-.
يقول: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ) [الحج:5]، (يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [الحديد:17]؛ بدأنا نستعمل لفظ الحياة:
- في الجمادات، ممكن على رتب، ارفع منها النباتات، الشجر الحي نباتات التي يَنمو ويَطوَل ويَكبُر فيه نمو، يُقال له: حي،
- ولكن يَقصُر إذا نسبناه إلى حياة فَوقه! حياةُ الحيوانات المتحرِّكة الآكِلة، الشارِبة، الناظِرة السامِعة، فرق بينها وبينه،
- والحيوانات بحياة هذا إذا نسبنا حياتها إلى حياة الإنس والجن والملائكة نجد فرق كبير، هؤلاء يعقلون ما لا تعقل هذا، ويستوعبون ما لا تستوعب هذا
عندهم حياة أُخرى أعلى، حياةٌ بوجود الروح في الأجسام فتتحرك وتأخذ خصوصياتها في الحياة، ولكن تمتدُ الأنظار إلى حياةٍ ايضاً وراء هذه الحياة وهي حياة القلب والروح، أي قلب ميت قلب حي ! كيف؟.
لَيْسَ مَنْ ماتَ فاِستراحَ بِمَيْتٍ *** إنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحياءِ
واحد حي فيه حياة جِسمانية دنيوية وقلبُه ميّت، هذا مصيبة. فللقلب حياة وموت:
- "مَثَلُ الذي يَذكُر رَبه والذي لا يَذكُر كَمَثَلِ الحي والميت"، يقول ﷺ.
- يقول: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام:122].
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24].
- (لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا) [يس:70].
هذه الحياة هي الحياة الشريفة والرفيعة، وهذه الحياة الروحية لأصحابها مراتِب ودرجات وخصائص في كلِّ مرتبة، وليست حياة وَروحِ قلب المُؤمن الطائع كحياة قلب المؤمن العاصي، هذا قلبه حي بأصل الإيمان والإسلام والتصديق بما جاء في الوحي وما بُعِث به الأنبياء، والتصديق باليوم الآخر والمصير إلى الرحمٰن هو حَيٌّ بذلك، لكن اكتسبت حياته ضُعفاً بمعصيته، بغفْلتِه، بعدم عَمله بمُقتضى هذه الحياة، بِعدم عَمَله بمُقتضى هذا الإيمان.
فليست حياته كحياة المؤمن الطائع، وهل المؤمن الطائع كلّهم حياتهم واحدة؟ حياة قُلوبهم وحياة أرواحِهم؟ لا، وبعضهم أعظم حياة من بعض؟ وهكذا إلى أن تنتهي إلى حياة الملائكة، حياة الأنبياء؛ من أعظم أشْرف الحيوات، أشْرف معاني الحياة.
وهذه الحياة بخصائصها البديعة الغريبة العجيبة لها ميزات ولها خصائص تتميّز بها مرتبة كلّ حياة، إلى حدودٍ قيل لمن اكتسب منها رُتبةً عالية: لا تسمّوهم أمواتاً ولا تقولوا عنهم أموات، ولا تَظنّوا أنّهم أموات، وإن خَرجَت أجسادهم من أرواحهم وقُبِروا في القُبور، احْتِراماً لهذه الحياة إذ نالوا منها منزِلة رفيعة: (وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ) [البقرة:154]. بسم الله، ليس لا، تقولُ فقط؟! حتى بظنك لا تحسب؛ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا سَبِيلِ اللَّهِ) -لا تُفكّر هذا التفكير؛ خاطئ- (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ) بماذا؟ رزق و فرح هذا موت هذا؟! (فَرِحِينَ)، (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ) [آل عمران:169-170] -الله أكبر- أرزاق وفرح واسْتِبشار، وأين الحياة؟ هذه الحياة! ما أعلاها، فإذا كان هذا مرتبة الشُهداء الذين قُتِلوا في سبيل الله! فكيف بالصدِّيقين؟! فكيف بالأنبياء؟! -الله أكبر-.
وماذا في هذه الحياة؟ وهذه الحياة تُفضي إلى مراتِب ودرجات الجنّة، فمن كان أعْظم حياة كان أعْظم منزِلة في الجنّة، -نعم- درجات، وأعلاها الفِردوس الأعلى، سَقفُه عرش الرحمٰن، وهؤلاء في الحياة التي يَحيونها أدناهم مَن جميع ما أوتي، وهو أدناهم مثل الدنيا عشر مرات محكومةٌ بإرادتِه وخَواطِره، ولا هَمَّ ولا نَصَبَ ولا غَمَّ ولا قَذَرَ ولا وَسَخَ ولا بولَ ولا نُخامةَ ولا بُصاقَ، هل رأيت الحياة هذه العجيبة؟ هذه أدناهم؛ واذا نظرت لأعلى الدرجات، إذا انتهيت إلى أعلاهم حياة صاحب الوسيلة أعلاها.
لكن كلّ هذه بالنّسبة لله الحي فلا شيء، حياة الله فوق ذلك، فهو الحي، هو خالق هذه الحياة: (خَلَقَ الْمَوْتَ) بأنواعها إلى نهايتها ومخلوقه له، فكيف حياته هو؟! هذا الذي لا يَبلُغه عقل؟ هذا الذي لا تُطيقُهُ قوى الملائكة والإنس والجن أن تُحيطَ به؛ حَيٌّ قَيوم بالحياةِ اللائقة به، ليست حياة شجر، ولا حياة بشر، ولا حياة ملائكة، حياة الله- الله الله الله الله- والذين عندهم الحياة كلها بمراتِبها هو الذي خلقها بيده -لا إله إلا هو-.
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) ويقول الله: هذا الوجود وما نَشَرتُ فيه من أنواع الكائنات والمخلوقات والترتيبات والأطوار والتقلُبات الحِكمة الكُبرى فيه من هذا الخالِق تتعلق بكم يا معشر المُكَلّفين مِن بني آدم والجن؛ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فمن أحسنَ الأعمال فهو الذي اتّصل بالمقصود لذي الجلال والحِكمة الكُبرى في إيجاد هذا الظِلال. والكَونُ بِكُلِّه ظِلال صِفات الله وأسمائه -جلّ جلاله- (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ والآصال) [الرعد:15].
يقول: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ..(2)) فماذا اكتسبت من حين بُلوغك في رمضان وايامه الذي مضت عليك إلى الآن؟! هذا الأمر الذي تَعْمله، خُلِق هذا الكون كُلّه والموت والحياة من أجل يُرى ما الحسن فيه وما الأحسن؛
- (لِيَبْلُوَكُمْ) -يختبِركم- (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، (أَحْسَنُ عَمَلًا) أخلص لوجه الله، أرْغب فيما عند الله، أزْهد فيما لا يُحِبّه الله، هذا الأحسن! أحْسن عمل، أخْلص لوجه الربّ، أرْغب فيما عند الربّ- الله أكبر- أزْهد في كل ما لا يُحِبُّه الربّ.
- (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) قال: عبّر بالأحسن و لم يُعبِّر بالأكثر لأن الكثرة ليست المقصودة، المقصود الإحسان في العمل، وإذا اجتمع الإحسانُ والكثُرة فَمِنَّةٌ كبرى من الله تعالى: كشؤون الأنبياء، وشؤون أكابر الصالحين والأولياء، أعمال كثيرة وإحسان كبير -الله أكبر-.
- (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وأحسنُهُم عَمَلاً أكمَلهُم عَقلاً؛ لأنّه الأخلَص، لأنّه الأزهد، كلّ ما عَقَل أكثر هو الأزهد وهو الأخلص، هو أحسن عمل، ولذا تفاوتت؛ هذا يُسَبِّح وهذا يُسَبِّح، هذا ثوابُه كذا وهذا ثوابه كذا وهذا ثوابه كذا، اخْتلفوا بحسب إحسانهم.
إحسانهم وإن كانت لهم مظاهِر في جسم العمل من حيث الإتقان: تلاوة أو قِياماً أو قُعوداً أو سُجوداً أو رُكوعاً من حيث صورته من حيث المُرسل، واحد، وإحسان آخر أهم وأعمق وهو صِلَته بالقلبِ؛ إخلاصُ القلب فيه وحضور القلب فيه مع الربّ، إحسان، كون القلب أزهد فيما لا يُحبه الله، العمل يعلو به حُسنه (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ..(2)) من هذا المعنى:
- ما يُؤثر أن ركعة من عالِم خَيرٌ من ألف ركعة جاهِل.
- ويقول النبي عن قومً تَشَّربت قلوبهم من نور الإحسان، معرفةً وذوقاً ووجِداناً، وهم السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ، يقول:"والذي نفسي بِيَدِه لو أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ"، هذا يُنفق مثل أُحد ذهب وذاك يأخذ مُد ونص مُد من طعام فيكون ثواب هذا أعظم!- الله أكبر-، لأن قلب ذاك أعظم، ونيّته أعظم، وحُضوره أعظم .
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ(2)) لا يَحتاجُ إلى شيء ويحتاج اليه كلّ شيء، عزيز عِزّة ما ليست لغيره، ويُعِزّ من يشاء بأنواع العِزّة لكن لا يحتاج إلى شيء أصلاً ويحتاج إليه كلّ شيء، هذا عِزته هو وحده -جلّ جلاله- (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) [فاطر:10]، بٍكِلّ معانيها، ولكن يُعِزّ من يشاء: رسوله والمؤمنين بمراتِب من العِزّة، يُعِزهم بها. اللهم أعِزّنا بطاعتك وقُربك، وما أعزّت العِباد أنفسها بمثل طاعة الله ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ) عزيز من عِزّته إذا انتقم فلا شيء أشدّ مِن نِقمَتِه، ولا عِقاب أشدّ من عِقابه، ولا عذاب أشد من عَذابه (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26] عزيز-جلّ جلاله- الله، صاحب العِزّة المُطلقة، (غفور) وهو الغفور لمن تاب، من أَقبَل، من رَجِع إليه، يُحسِن التجاوز ويُحسِن المسامحة والعفو. اللهم إنّك عفوٌّ تُحِبُ العفو فاعفو عنّا.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)) وكلاهُما -الإسمان الكريمان- بصيغة المُبالغة -فَعيلٌ وفَعول-،
- عزيز: عظيم العِزّة، واسِع العِزّة.
- غفور: كثير المغفِرة ليس غافِرفقط! -غفور- كثير المغفرة، لا يصعُب عليه شيء، إذا أراد يغفِر؛ صغير كبير كُلّه بيده، قليل كثير، كُلّه سهل عليه وكُلّه سواء عنده -جلّ جلاله-.
يا غفور لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، لا تدع لنا سيئة إلا غفرته، لا تدع لنا خطيئة إلا غفرتها، اغفر لنا يا غفور، اللهم إنّك عفوٌّ تُحِبُ العفوّ فاعفو عنّا .
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)) كم فيها؟ وما معانيها؟ حُمْنا حول هذه المعاني البديعة وفيها من الشؤون الرفيعة ما لا يُلقى إلا للقلوب السميعة الوسيعة. اللهم أكرِمنا واجعلنا من أهل القُرآن عِندك، وهب لنا محبّتك و ودّك يا أرحم الراحمين.
كان سيدنا عثمان يقول: لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُنا مَا شَبِعَتْ مِنْ كَلاَمِ اللَّهِ ، ومعكم العشر الأواخر، يا كم مِن صِلة تُعقد بين قلب مؤمن والقرآن في العشر الأواخر، ابحث لك عن صِلة بهذا الكتاب فإنّها صِلتك بِمُنزِله وبالمُنزَل عليه.. صِلتك بالكتاب؛ صِلتك بِمُنزله وبالمُنزَل عليه.
قوِّ صِلتِنا بِكِتابك وارزقنا فهم خِطابِك ووعي ما أنزلت على قلبِ سيّد أحبابِك، و افتح لنا فتحاً مُبيناً في فهم القرآن وتدبّر معانيه، والاغتراف من بحر عِلْمه، والاستدلال بدلالة رُشدِه، والاهتداء بِنوره وما فيه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
21 رَمضان 1440