إقامة الصلات بالكائنات على مقتضى شرع الله عز وجل

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، 2 ذو القعدة 1445هـ، بعنوان: 

إقامة الصلات بالكائنات على مقتضى شرع الله عز وجل

نص الخطبة مكتوب:

الخطبة الأولى :

الحمدلله،  الحمدلله الملك الخالق البارئ المصور الحي القيوم الواحد الأحد، العلي العظيم الواسع الكبير الجليل الصمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جامع الأولين والآخرين للحُكم بينهم في يوم يقف الجميع بين يديه، ومرجع الكل إليه، لا إله إلا هو له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. 

ونشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا مُحمداً عبده ورسوله، ونبيه وحبيبه وصفيه وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وجعله أكرم عباده عليه وأحب خلقه إليه فهو الأمين المأمون. 

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على من ختمتَ به النبوة والرسالة، عبدك المصطفى سيدنا محمد من دللْتنا به عليك فأحسَن الدلالة، وعلى آله وأهل بيته المطهرين المقترنين بالقرآن، لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض يوم القيامة، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين الذين وهبتهم الفضل والسيادة والكرامة، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان، فأحسن اقتداءه واتِمامه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الفضل والشهامة والزعامة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك ياأرحم الراحمين.

أما بعد،، 

عباد الله،، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا الله يا عباد الله وأحسنوا يرحمكم الله، (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

إحسان صلة المؤمن بالكائنات:

ألا وإن من أُسُس التقوى أن تُحسِن الصلة بهذا الإله -جلّ جلاله- بأن تقيم صلتك بالموجودات والكائنات التي خلقها، على ما أحب وعلى ما رضي وعلى ما شرع لك -جل جلاله وتعالى في علاه-، فالوجود والكون وما فيه صنعته وخَلقه وإيجاده وفعله وإبداعه سبحانه وتعالى، فانظر كيف تراقب الصانع في الصنعة حتى لا تخسر يوم المآب والرجعة.

وإن إيمانك به تعالى يقتضي أن تقيم الصِّلات بالكائنات كما شرع وأحب ورضي سبحانه وتعالى، وإن الله خلق الخلق والكون وما فيه، (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) -جل جلاله-، وجعل خِيار الخلق العقلاء من الإنس والملائكة والجن، وميَّزهم عن بقية الكائنات بالروح، وما يتأهلون به للمعرفة الخاصة بالرحمن والمحبة الخالصة التي يفوقون فيها بقية الأكوان، لكل من صلح منهم وصدق مع عالم السر والإعلان -جلَّ جلاله-. 

ثم جعل بقية أجناس الوجود؛ حيوانات ونباتات وجمادات، ولنا في شرع الله تبارك وتعالى كيفية اتصال بكل هذه الكائنات كما أحب وشرع، فمن هؤلاء الخَلق من لم يقبل سبحانه وتعالى الإيمان به حتى نؤمن بهم وهم ملائكته ورسله صلوات الله وسلامه عليهم.

الاعتقاد والإيمان بملائكة الرحمن: 

ولا يمكن لأحد من المُكلَّفين أن يكون مؤمناً بالله حتى يؤمن بأنبياء الله ورسله أجمعين، ويؤمن بالملائكة المقربين، وأنهم خَلقٌ خَلقهم الله من نور؛ لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتناكحون (لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وأن الأنبياء والمرسلين هم الصادقون الُمبلِّغون، الأمناء العقلاء، أهل الفِطانة، أعقل الخلائق من جميع خلْق الله تبارك وتعالى، من جميع من سواهم.

أيها المؤمنون بالله،، ولقد قال الله تبارك وتعالى: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ)، وقال تبارك وتعالى: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ).

أيها المؤمنون بالله،، فعلاقتنا بالملائكة علاقة تعظيم وإيمان وإقرار لما حدَّثنا به عنهم رسول الله ﷺ،  وعلاقتنا بالأنبياء والمرسلين علاقة إيمان وتعظيم وإجلال وتكريم، (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) يعني عظمتموهم وأجللتموهم، يقول سبحانه وتعالى: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، ومن كذَّب برسول واحد من المرسلين فقد كفر وخرج عن ملة الله ودينه، ولا يدخل الجنة أبدا حتى يؤمن بكل رسول أرسله الله وبكل نبي ابتعثه الله.

الصلة والاعتقاد والإيمان برسل الله ﷻ :

وقد جعل بعضهم أرقى وأعظم من بعض (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) وجعل أفضلهم؛ أولو العزم من الرسل، وجعل أفضل الكل نبيكم محمداً خاتم النبيين وسيد المرسلين. 

وبذلك وجب على كل مؤمن أن لا يحب بعد الله الذي خلقه أحداً قبل محمد بن عبد الله، وبعده بقية الأنبياء والمرسلين والملائكة فيكونون أحب إلينا مما سواهم من الخلق هذا مقتضى الإيمان، صلتنا بهم صلة إيمان وتعظيم وتمجيد ومعرفة لقدرهم عند الله -جل جلاله- وتزيد صلتنا بالأنبياء والمرسلين بالاقتداء والاهتداء (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) صلوات الله وسلامه عليهم، وخُصَّ خاتمهم النبي محمد بأنه أكرم الخلق على الله، وأنه الخاتم لأنبياء الله ورسل الله، وأنه الذي تحت لوائه جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم.

صلة المؤمن بالسابقين الأولين:

ثم كانت الصلة فيمن عداهم أن نعلم للأنبياء آلاً وأصحاباً وأتباعاً منهم من أتباعهم خلفاء ووُرّاثاً لهم، شرع الله أن تكون صلتنا بهم صلة التكريم والتعظيم والأخذ للمنهج القويم والصراط المستقيم عنهم، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، كمثل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار آلاً وأصحاباً، قال الله تبارك وتعالى (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) ما معنى قول ربنا (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ)؟ معناه تشريع صلةٍ في الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار آلاً للنبي وصحباً رضي الله عنه وأرضاهم، قال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

أيها المؤمنون بالله،، فهؤلاء من الأتباع من الآل والصحابة والخلفاء للأنبياء من العلماء رضوان الله عليهم والورّاث لهم من الذين يحيون شرائعهم؛ مكان زائد في الولاء والمحبة على عموم المؤمنين، وعموم المؤمنين يختصون منا بالولاء إيماناً بالله وتصديقاً بما أوحى، نوالي المؤمنين ونعلم أخوةً ذكر الله عقدها في كتابه قال، -جلَّ جلاله- :(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) .

وأمرنا أن نوالي عامتهم عامة وخاصتهم خاصة، فقال تعالى في خاصة المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أمرٌ من الله أن تكونَ مع الصادقين، الصادقين الذين في زمانك -ولن يُعدم زمانك من صادقين- تتصل بهم للتلقِّي والأخذ والترقي والتزكي وأخذ العلم النافع بالسند الصحيح، ومن مضى قبلك من الصادقين الذين ظهرت عليهم علائم الصدق بقراءة كتبهم وذكر أخبارهم وأحوالهم والاقتداء بهم لنكون معهم.

التقوى وملازمة الصادقين: 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فلا يمكن لمؤمن بالله أن يقول أنا معك ومع رسولك وما عليَّ من البقية، بل البقية محل اتباع (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) والبقية أنت مأمور بأن تكون معهم، (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، بل أنت مأمور أن تتبع طريقتهم وسبيلهم بقوله تعالى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) طريقة المنيبين الخاشعين المتواضعين المخلصين، يجب أن نتبعها بأمر الله فلا يكون عملٌ بالكتاب والسنة إلّا باتباع المنيبين، وإلّا بالكون مع الصادقين، وإلّا باتباع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

ثم مع هؤلاء الخصوص قبل عموم المؤمنين في الولاء منهم من يكون المحبة له علامة الإيمان، والبغض له علامة النفاق، وهكذا جاءتنا الأحاديث الصحيحة عن سيدنا المصطفى محمد ومنهم الأنصار الذين نصروا نبينا المختار، وجاء في الصحيحين عن الإمام البخاري والإمام مسلم عن سيدنا رسول الله ﷺ، قال: “آيَةُ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ” آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار،  بل وجاء في رواية أخرى “ومَن أَحَبَّهم أَحَبَّهُ اللهُ ، ومَن أَبْغَضَهم أَبْغَضَه اللهُ“. 

صلة المؤمن القلبية ومحبته للصحابة:

مع أن محبة المؤمنين كلهم واجبة على العموم، ولكن الأنصار على الخصوص كالسابقين الأولين من المهاجرين، ومنهم في التخصيص سيدنا علي بن أبي طالب الذي جاءنا في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وغيرهما أنه خاطبه ﷺ  وقال: “لا يُحبُّكَ إلا مؤمنُ، ولا يُبغِضُك إلا منافقٌ”، فما من مؤمن إلا وهو يحب علي بن أبي طالب وما من منافق إلا وهو يبغض علي بن أبي طالب. 

وكان سيدنا علي إذا ذكر هذا الحديث قال: لو سَقيتُ المنافق سمناً وعسلاً لم يزدد لي إلا بغضا، ولو علوت المؤمن بسيفي لم يزدد لي إلا حبا، بعد قول النبي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق.

صلة المؤمن بالخلائق وفق شرع الخالق ﷻ:

أيها المؤمنون بالله ﷻ،، علاقتنا بالخلائق ما شرع لنا الخالق -جل جلاله وتعالى في علاه- من موالاة المؤمنين عامة وخاصتهم خاصة، ومحبة الآل والصحابة الكرام رضي الله عنهم وهم رأس الأمة، ثم من خَلَفهم ومن جاء بعدهم ممن مضى على الطريق ممن قال الله عنهم :(وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) ومن الصادقين ومن المنيبين. 

يا أيها المؤمنون بالله -جل جلاله وتعالى في علاه،، وقد أمرنا الله أن نعود إلى المستنبطين وهم المجتهدون من أهل العلم، وأن نأخذ عن أهل الذكر (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، (ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأمْرِ مِنهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ). 

صلة المؤمن بالوالدين:

أيها المؤمنون بالله -جل جلاله وتعالى في علاه،- ثم جعل الله أيضا خصوصيةً للآباء والأمهات، وقال عن الوالدين: (أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)، ربط وقرنَ شكر الوالدين بشكره سبحانه وتعالى، بل ربط الإحسان إليهما بعبادته سبحانه وتعالى، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وأمرنا بالدعاء لهما والترحم عليهما (وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، وأمرنا بخفض الجناح لهما من الذل، إذن فالتذلل لمن أحب الله تكريمه؛ مثل الآباء والأمهات ومثل الآل والصحابة قُربة إلى الله جل جلاله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، وأمرنا أن لا نتفوَّه أمامهما بكلمة تضجُّر، ولو كانت كلمة أف (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا). 

عداء الأولياء وخطره على فاعله:

أيها المؤمنون بالله جل جلاله،، ثم يقول لنا الله في الحديث القدسي: (مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ) مع أن معاداة المؤمنين كلهم حرام، وسباب المسلم فسوق وقتاله كفر، ومع ذلك فخصوص الأولياء؛ من عادى أحداً منهم حاربه جبار السماوات والأرض فويلٌ له! من حاربه الله؛

 كيف تكون خاتمته؟ 

من أين يأتي بحسن الخاتمة؟ 

من حاربه الله من يغفر له؟ 

من حاربه الله من يسعده؟ 

فوجب تعظيم الأولياء، ولو لم تكن علامات للأولياء يظهرون بها بين البرية لما كان من معنى لقول الله: (مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ)، ويجب على المؤمن أن يحتمل الولاية في كل مؤمن وفي كل مؤمن تقي، أي ظهرت عليه العلامات، فكيف بمن توافرت وتكاثرت عليه علامات تولِّي الرحمن له -جل جلاله وتعالى في علاه-.

صلة المؤمن بالكائنات والحيوانات: 

ثم إنه سبحانه وتعالى شرع في صلتنا بالحيوانات أن نُحسن إليها، وأن لا نذبح منها ولا نقتل إلا السباع الضاريات، وإلا ما أباح لنا أكله من الأنعام جل جلاله وتعالى في علاه. وجعل القِصاص بينها والقصاص بيننا وبينها يوم القيامة (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). 

بل جعل من هذه الأنعام ما يلتحق بشعائر الله، وما التحق بشعائر الله كان تعظيمه من تقوى الله -جل جلاله- ومن تقوى القلوب، قال تعالى: (وَالْبُدْنَ) أي الجِمال (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله)، حيوان -جمل- لكن بمجرد أن تنوي إهداءه إلى الكعبة يصير من شعائر الله، إذا أردت أن تهديه لذبْحهِ في الحرم وتقسيم لحمه على الحاضرين في حرم الله تحوَّل هذا من شعائر الله، (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ). 

اللهم انظر إلى قلوبنا وارزقنا حقائق التقوى وارفعنا مراتب القرب الأعلى، وارزقنا يا مولانا إقامة الصلات بالكائنات كما شرعت وأحببت، ولا تقطعنا بشيء منها عنك، ولا تحجبنا بشيء منها عن شهودك والصدق معك، يا ذا الجلال والإكرام.

والله يقول وقوله الحق المبين (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال تبارك وتعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴿٥٥﴾ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴿٥٦﴾)

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

الحمدلله، وليّنا الذي إليه مرجعنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو عليه توكلنا وهو حسبنا، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، أحبُّ الخلق إلى الخالق، الذي أوجب الله على المؤمنين أن يحبوه محبةً تفوق محبة كل من سواهما، -جلَّ الله وصلى على رسوله- اللهم صلِّ وسلِّم على المصطفى عبدك المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه.

صلة المؤمن بآل بيت رسول الله ﷺ :

أما بعد،، 

عباد الله،، فإن في بيان العلائق مع الخلائق يقول الله في خواص الأمة: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أي مودة أقربائي وهم آل بيته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الذين يوالي الله من والاهم ويعادي من عاداهم والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

أيها المؤمنون بالله،، يقول تعالى (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ)، وفي تعظيمهم قربة إلى الله وهو من تقوى القلوب، وهذا ينقض قول أهل الجهالة أن تعظيم الشيء عبادة له، أفأمرنا الله بعبادة غيره -حاش الله-؟

 وإنما تعظيم الشيء من أجل الله عبادة لله، كالسجود لآدم عبادة لله جل جلاله قام بها الملائكة وأباها إبليس فلُعن وطُرد.

الإيمان والتعظيم لشعائر الله تعالى:

أيها المؤمنون بالله، ومن البُدن ما يكون من شعائر الله.

أيها المؤمنون بالله -جل جلاله وتعالى في علاه- وإن الجمادات بأصنافها؛ منها عرش وكرسي، ومنها سماوات عُلا، ومنها كعبة معظمة من أعظم شعائر الله، ومنها مساجد في أرض الله تعالى هي بيوته من حيث نزول رحمته، ومن حيث نظره إلى الحاضرين فيها، فلا تكون المساجد كغيرها؛ تختلف الجمادات، وهذه الكعبة المشرفة مبنية من حجار لكنها نُسبت إلى الواحد الغفار، وحلَّت عليها عنايته وتجلياته وخُصِّصت بتعبد الله بالطواف بها، وليس الطواف بالكعبة عبادة للكعبة -حاش الله-، ولكنها عبادة لرب الكعبة الذي أوجدها لنا وجعل فيها البركة وجعلها أول بيت (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَن). 

وجعل جبل الصفا والمروة من شعائره، لأنه شرع السعي بينهما، قال :(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ). 

 وجعل من مناسك الحج، أحجاراً أخرى تُرمى بحجارة وهي الجمرات الثلاث في منى، فمن أراد أن يقول أن الأحجار كلها سواء ثم أراد أن يتعامل مع جمرة من جمرات منى كما يتعامل مع الكعبة؟!  أو يتعامل مع الكعبة كما يتعامل مع جمرة من جمرات منى؟! فقد ضلَّ وقد زلَّ، وقد تعرّض لغضب الله عز وجل.

 الأحجار كلها أحجار، ولكن :

  • ما شَرع الله الطواف به طُفْ به
  • وما شَرع استقباله في الصلاة استقبله 
  • وما شرع تعظيمه عظِّمه
  •  وما شرع رميه فارمه وارجمه

 وبذلك يتحقّق الإيمان، فإذا كان هذا في الجمادات؛ فكيف في الحيوانات؟! فكيف في الناس؟!

الناس سواء، نعم -في أصل الخلقة والتكوين سواء- ولكن والله لا يستوون، من الناس من أمر الله بموالاته، ومنهم من أمر بالإيمان به، ومنهم من أمر بتعظيمه ومحبته، ومنهم من أمر ببغضه، ومنهم من أمر بمقاتلته، فلا تضع هذا موضع هذا ولا هذا موضع هذا، وأقِمهم فيما أقامهم فيه ربك -جل جلاله وتعالى في عُلاه-.

وهكذا في جميع هذه الكائنات، إن لنا صِلات بالله في القيام بشرعه في صلتنا بالكائنات كلها، حتى نشهدها آيات من آيات الله، وننظر فيها للاعتبار والادِّكار:

 النظر بالتعظيم إلى الكعبة قُربة إلى الله تعالى، ينزل على هذا البيت في كل يوم مائة وعشرون رحمة، ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين، مُجرد النظر إلى الكعبة عبادة، مُجرد النظر إلى الكعبة تنزل به الرحمة، فهكذا عظَّم الله من الشعائر ما عظّم، وكرّم ما كرّم.

وهل المساجد كالأسواق؟ وهل المساجد كالملاهي والمقاهي؟ وكلها أرض، نعم كلها أرض، ولكن "أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها".

فلابد أن تفرق بينها، وهذا فقهٌ في التقوى وفقهٌ في الإيمان، تقيم صلتك مع الكائنات كما شرع ربُّ الكائنات -جلّ جلاله-.

فتعلَّموا من كلام الله ورسوله ما تقيمون به الصِّلات بالأكوان كما أحب؛ أخوَّة للمؤمنين ومودة، وعموم إرادة خير للخلق أجمعين -نحب بحبك الناس ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك-، (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).

ولاء المؤمن ومودته لله ورسوله:

لا ولاء للكفار ولا للأشرار، ولكن دعوة ونصيحة وتمنِّي الخير، أمّا الإحسان، أمّا البِر، أمّا القسط فللمؤمن وللكافر وللقريب وللبعيد وللصغير وللكبير، أما المودة والولاء فليست إلا للمؤمنين، وأما التعظيم والإجلال فلِخواص المؤمنين من علماء وأولياء ومن ورثةٍ للمصطفى محمد ﷺ.

 وإذا كان من إجلال الله سبحانه وتعالى إكرام ذي السلطان المُقسط  -أي الوالي العادل الذي يقوم بشريعة الله-، وإذا كان من إجلال الله توقير ذي الشيبة في الإسلام -الشيبة المسلم- فكيف بأولياء الله؟ فكيف بالعلماء؟ فكيف بالمقربين عند الله؟

معرفة الحق لأهل الحق وموالاتهم: 

ولقد قال الفرزدق وهو يصف علي زين العابدين بن الحسين، من يعرف الله يعرف أولَّية ذا، من يعرف الله يعرف أولية ذا، يعرف الحق لهذه القرابة، يعرف الحق لهذا العلم، يعرف الحق لهذه الخلافة النبوية.

من يعرف الله يعرف أوليَّة ذَا ** فالدين من بيت هذا نالهُ الأممُ

ولقد خصَّكم الله في الشيشان بمسلك أهل السنة والجماعة من خواص المؤمنين، وأسانيد عن الأولياء والصالحين، وخصكم الله تعالى بدولةٍ على هذا المسلك وعلى هذا المنهج الموروث، أيدهم الله وأعانهم على التقوى والبر والخير ونصْرته ونصرة رسوله، فالحمدلله على ذلك ونشرَ الله ذلك في بلاد المسلمين أجمعين إنه أكرم الأكرمين.

وعجَّل بالفرج على أهل غزة وأهل رفح وأهل الضفة الغربية وأكناف بيت المقدس، وعلى أهل السودان وأهل الصومال وأهل ليبيا وأهل الشام وأهل اليمن، وجميع المسلمين في المشارق والمغارب، عجِّل يا ربِّ بالفرج، عجل يا ربِّ برفع البلاء عنهم، عجل يا رب بجمع شملهم، عجل يا رب بهلاك عدوك وعدوهم، من الغاصبين والظالمين والمعتدين يا قوي يا متين.

وأكثروا الصلاة والسلام على نبيكم خير الأنام، فإن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً، وهو القائل كما روى الإمام الترمذي في سننه: ”إن أَولَى النَّاسِ بي يومَ القيامَةِ أكثَرُهم علَيَّ صلاةً”.

وقد أمرنا الله في القرآن، وابتدأ بنفسه وثنَّى بالملائكة وأيَّهَ بالمؤمنين، فقال مخبراً وآمراً تكريماً (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

 اللهم صلِّ وسلِّم على المصطفى المختار سيدنا محمد نور الأنوار وسر الأسرار وترياق الأغيار ومفتاح باب اليسار.

وعلى الخليفة من بعده المختار، مؤازرهِ في حاليي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق. 

وعلى من نشر العدل في الآفاق فاشتهر، وقام في مقام المتابعة لرسول الله وصاحبه أبي بكر فيما بطن وما ظهر، وفتح الله به الأمصار وأيد به الإسلام، أمير المؤمنين بن الخطاب سيدنا عمر.

وعلى الناصح لله في السرّ والإعلان، من استحيتْ منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان.

وعلى أخِ النبي المصطفى وابن عمه، ووليهـِه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب. 

وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بنصِّ السنة، وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء. 

وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا، وعلى الحمزة والعباس وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وعلى أهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر الصحب الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم وملائكتك المقربين وعبادك الصالحين.

الدعاء :

اللهم اغفر لنا وآبائنا وأمهاتنا، والمتقدمين في بلداننا من أهل لا إله إلا الله عامة وخاصتهم خاصة، واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.

 اللهم أصلح هذا البلد وأهله، وخذ بيد الرئيس رمضان إلى ما فيه الخير والصلاح في السر والإعلان، ومفتي البلد ومن يقوم معهما بالخير ومن يقوم بالنصرة من صغير وكبير وذكر وأنثى، في جميع مجالات الحياة وشتى نواحيها، اللهم ألهمهم الرشد وتمم لهم السعد، وأصلح لهم النية والقصد وارفعهم مراتب القرب والمجد.

اللهم أصلح المسلمين في هذه البلدان وجميع أقطار الأرض طولها وعرضها، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، اللهم أصلِح المسلمين واجمع شمل المسلمين، وألِّف ذات بين المسلمين وادفع البلاء عن المؤمنين، وحَوِّل الأحوال إلى أحسنها يا رب العالمين.

 اللهم لا تصرفنا من جُمعتنا إلا وقلوبنا عليك مجموعة، وأعمالنا الصالحة مقبولة مرفوعة، ودعواتنا مستجابة مسموعة، اللهم انظر إلينا، اللهم انظر إلينا، اللهم انظر إلينا، وأصلح ظواهرنا وخافينا، وأسعدنا في الدنيا والآخرة واجعلنا من أهل الوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة يا رب العالمين.

عباد الله،، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر. 

تاريخ النشر الهجري

02 ذو القِعدة 1445

تاريخ النشر الميلادي

09 مايو 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام